عبد الباري عطوان
ردّت حركة طالبان بقُوّةٍ وبسُرعةٍ على الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان برفضها اتّفاقًا عسكريًّا يسعى لتوقيعه مع الولايات المتحدة الأمريكيّة يُؤدّي إلى بقاء القوّات التركيّة في أفغانستان بعد انسِحاب جميع قوّات حلف النّاتو، بِما في ذلك القوّات الأمريكيّة تحت غطاء حِماية مطار كابول الدولي وإدارته، وحذّرت الحركة التي انتصرت على الاحتِلال الأمريكي وأجبَرته على الرّحيل، من عواقبٍ “وخيمة” يُمكن أن تترتّب على هذه الخطوة التركيّة في حالِ اتّخاذها.
هذا العرض الرّسمي التركي الذي تحدّث عن بعض تفاصيل بُنوده السيّد خلوصي آكار، وزير الدّفاع التركي، يأتي بالتّزامن مع اتّصال الرئيس أردوغان بنظيره الإسرائيلي إسحق هرتسوغ مُهَنِّئًا، ومُؤكِّدًا أنّ العلاقات بين تركيا وإسرائيل مُهمّة لأمن مِنطقة الشّرق الأوسط واستِقرارها، ومُشَدِّدًا على أهميّة التّعاون بين البلدين في مجالات السّياحة والطّاقة والتّكنولوجيا، وسَط أنباء شبه مُؤكّدة عن خطواتِ تقارب عالية المُستوى بين الجانبين في الأسابيع المُقبلة.
***
لا نَعرِف طبيعة الصّفقة السِّريّة التي جرى التَّوصُّل إليها بين الجانبين التّركي والأمريكي، فالمسألة أكبر من إدارة مطار العاصمة الأفغانيّة الدّولي بعد انسِحاب القوّات الأمريكيّة في أوائل أيلول (سبتمبر) المُقبل، كما ما زال غامضًا، الثّمن السّياسي والمادّي الذي ستَحصُل عليه تركيا من جرّاء القِيام بهذا الدّور، أيّ دور الوكيل لأمريكا في أفغانستان في المرحلة المُقبلة، وما علاقة التّقارب الإسرائيلي التّركي المُتوقّع مع هذه الصّفقة.
صحيح أنّ عدد القوّات التركيّة في أفغانستان لا يزيد عن 500 جندي يتواجدون هُناك تحت مِظلّة حلف النّاتو، ولكن من المُرجَّح أن يتضاعف هذا العدد عدّة مرّات، مصحوبًا بمَعدّاتٍ ثقيلة، ومنظومات دفاعيّة صاروخيّة، وطائرات مُسيّرة، لأنّ مهمّة حِماية المطار، وبعد رفع الغِطاء الجوّي الأمريكي، يحتاج إلى ترسانةٍ عسكريّة ضخمة.
المسألة أعمق من حِماية مطار، خاصّةً أنّ الانسِحاب الأمريكي قد يُؤدِّي إلى حربٍ أهليّة في أفغانستان نظَرًا للصّراعات العِرقيّة والطّائفيّة (قبيلة البشتون التي تُمثّلها حركة طالبان وحُلفاؤها وتحالف الشّمال الطّاجيكي، والأقليّة الشيعيّة في مزار شريف، والبلوش وبدَرجةٍ أقل في الجنوب)، ووجود قَوى دوليّة وإقليميّة عُظمى تتنافس على النّفوذ في البِلاد ونحن نتحدّث هُنا عن باكستان وإيران والهند وروسيا، ولا ننسى أمريكا التي تُريد أن تثأر لهزيمتها، ومنع طالبان من إقامة إمارتها الإسلاميّة، واتّخاذ أفغانستان إلى قاعدة لميليشيات تدعمها لزعزغة استِقرار الصين تحت ذريعة دعم أقليّة الإيغور الإسلاميّة “المُضّطهدة” في الشّريط الصيني الغربي المُحاذي لأفغانستان.
السّؤال الذي يطرح نفسه في أوساط عواصم هذه الدّول هو عمّا إذا كانت الحُكومة التركيّة ستُرسِل قوّاتها إلى أفغانستان لتوسيع نُفوذها، أم ستُجَنِّد “قوّات مُرتزقة” سوريّة وتركمانيّة على غِرار ما فعلت في ليبيا وسورية وأذربيجان؟
رفض حركة طالبان للصّفقة الأمريكيّة التركيّة يعني أنّ القوّات التركيّة ستكون هدَفًا لضرباتها، مثلما يعني أيضًا أنّها ليست قوّات صديقة بل مُعادية أيضًا، يُشَكِّل وجودها اختِراقًا لسِيادة البِلاد وأمنها، فإذا كانت تركيا دولة مُسلمة صديقة فإنّ عليها أن تنسحب من حِلف النّاتو أوّلًا، وتُوقِف تعاونها مع أمريكا، مثلما قال مُتَحَدِّث باسمها (الطالبان) قبل يومين.
حركة طالبان حاربت حلف النّاتو لأكثر من 20 عامًا، وانتصرت على أمريكا التي تزعّمته وحشدت 160 ألف جُندي في حرب كلّفت تريليونيّ دولار و3500 جندي و25 ألف جريح، ولن يكون صعبًا عليها التّصدّي للقوّات التركيّة والمُرتزقة الذين قد يأتون معها، فتركيا ليست أقوى من أمريكا وحِلف النّاتو معًا.
والأهم من كُل ذلك أنّ حركة طالبان أقامت، وتُقيم علاقات قويّة مع الصين وإيران وروسيا التي تُريد الولايات المتحدة استِهدافها في المرحلة المُقبلة ورفضت الحركة شرعيّة “ثوّار الإيغور” ومنعتهم من الانطِلاق في عمليّاتهم ضدّ الصين من أراضيها، وحرّمت هذه العمليّات شرعيًّا، وقال سهيل شاهين المُتَحدِّث باسم الحركة “إنّ الصين دولة صديقة لأفغانستان، ولن نسمح “لمُتمرّدي” الإيغور التّدخّل في شُؤونها وتهديد أمنها واستِقرارها، وأضاف “مِصر والسعوديّة وباكستان لم تدعم فرض أمريكا وأوروبا عُقوبات على الصين بسبب “اضّطهادها” للإيغور فلماذا لا نسير على خُطاهم؟”، وهذا الرَّد يَعكِس مدى تطوّر الحركة ونُضجها، واستِفادتها من سَنواتِ الحرب العِشرين، وميلها أكثر للبرغماتيّة.
***
أمريكا خرجت عسكريًّا من أفغانستان ولكنّها لم تَخرُج سياسيًّا، وستَشُنّ حربًا بالإنابة على طالبان وحُلفائها، ولها خبرة وباع طويل في هذا المَيدان، ولا نَستبعِد استِخدامها لورقة “الإسلام السّياسي” مرّةً ثانية وثالثة في أفغانستان مثلما استَخدمتها في سورية والعِراق وليبيا ومِصر، وجنّدت مِئات الآلاف من “المُجاهدين” لإخراج السّوفييت من أفغانستان والثّأر لهزيمتها المُهينة في فيتنام.
الرئيس أردوغان يُريد البقاء في السّلطة بأيّ ثمن، بعد تراجع شعبيّته، ويعتقد أنّ أمريكا وإسرائيل يُمكِن أن يكونا السُّلَّم للوصول إلى هذا الهدف، وإنقاذ الاقتِصاد التّركي من أزَماته، وكم هو مُخطِئ في هذا الاعتِقاد، فأفغانستان ليست مِثل سورية وليبيا، وتَبْعُد عنه آلاف الكيلومترات، والأهم من كُل هذا وذاك أنّ قبيلة البشتون التي تُشَكِّل 45 بالمِئة من سُكّانها تتَمتّع بشُعورٍ قوميّ قويّ جدًّا، مدعومًا بعَقيدةٍ إسلاميّة أقوى، وهزمت مِثل اليمن كُلّ الإمبراطوريّات التي تجرّأت على غزو أفغانستان وخاصّةً الإمبراطوريّة البريطانيّة (هُزِمَت مرّتان) وبعدها السوفييتيّة، والآن الأمريكيّة.
باختِصارٍ شديد نقول: الرئيس أردوغان يَزُجُّ ببِلاده تركيا في عُشّ دبابير سيَخرُج مِنه مُثْخَنًا باللّسَعات.. والأيّام بيننا.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم