نشر الكاتب والمحلل السياسي رامي الشاعر مقالة في صحيفة “زافترا” الروسية، عن رد الولايات المتحدة الأمريكية على مقترحات موسكو بشأن الضمانات الأمنية. وجاء في المقال:
لفت وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، مؤخراً إلى أن رد الولايات المتحدة الأمريكية على مقترحات موسكو بشأن الضمانات الأمنية يعدّ “نموذجاً للياقة الدبلوماسية” بالمقارنة باستجابة “الناتو”.
اعتبر لافروف أن استجابة “الناتو” أيديولوجية، تسودها استثنائية وفوقية الحلف، ورسالته، حتى لشعر المرء بـ “الخجل من أجل من كتب هذه النصوص”. تابع لافروف تسليط الضوء على الموقف الخبيث للدول الغربية فيما يتعلق بتوسع “الناتو” والخلاف مع موسكو، ليقول: “لقد شرحوا لنا بشأن التسعينيات أن الالتزامات المكتوبة بشأن عدم توسع الناتو غير موجودة، لكن هذه الالتزامات المكتوبة لدينا الآن. تم اعتمادها من منظمة الأمن والتعاون في أوروبا أكثر من مرة، وتم التوقيع عليها على أعلى المستويات”.
وأوضح الوزير الروسي أن الحديث يدور حول تصريحات إسطنبول وأستانا بشأن الأمن الأوروبي، التي وقع ليها قادة جميع دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بما في ذلك الرئيس الأمريكي. توضح تلك الوثائق، بما لا يدع مجالاً للشك، مبدأ عدم قابلية الأمن للتجزئة، وهو ما تعهد، ويفترض أن يتعهد بمراعاته جميع الموقعين.
وفي ذلك فهناك نهجان رئيسيان مترابطان، وفقاً للافروف: “أولاً، حق كل دولة في اختيار التحالفات العسكرية بحرية معترف بها. ثانياً، التزام كل دولة بعدم تعزيز أمنها على حساب أمن الآخرين”. بمعنى أنه من الواضح أن الحق في اختيار التحالفات، وتحديداً اختيار دولة ما الانضمام إلى “الناتو” على سبيل المثال، لا يمكن أن يأتي خصماً من المصالح الأمنية لأي دولة أخرى من دول منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بما في ذلك روسيا. وهو بيت القصيد، بالنسبة للخطوط الحمراء التي ترسمها روسيا بالنسبة لانضمام دول مثل أوكرانيا أو جورجيا إلى “الناتو”. وهنا جوهر القضية، ومنبع القلق لدى روسيا، وهو ما ينفيه الحلف، في محاولة لحرمان روسيا من حقها الأصيل في الدفاع عن أمنها القومي.
في سياق متّصل، تمطرنا وسائل الإعلام الغربية دون انقطاع بوابل من التقارير الإعلامية “المرعبة” و”الخطيرة” حول “نقل قوات ضخمة” إلى الحدود مع أوكرانيا، في ضجة إعلامية غير مسبوقة، بلغت ذروة الجنون، ما دعا وزارة الخارجية الروسية إلى الرد على مادة إعلامية لهيئة البث السويسرية “إس آر إف” SRF، بعنوان “روسيا ترسل قواتها إلى الحدود مع أوكرانيا” بالقول: “أيها السادة السويسريون، لم يعد هذا مجرد عمل غير احترافي، بل تشخيص طبّي يحتاج إلى علاج أصحابه.. إذا كنتم بحاجة إلى الحديث عن المناورات، بإمكانكم الاتصال بوزارة الدفاع الروسية، كي تعلّمكم كيفية استخدام الخريطة، وتخبركم بماهية تدريبات القدرة الدفاعية”.
وعلى الرغم من نفي روسيا، يومياً على لسان كل المسؤولين في الدولة، وجود أي نية لها بالهجوم على أوكرانيا، وتأكيدها على ضرورة العودة إلى اتفاقيات مينسك، وحل الأزمة دبلوماسياً، إلا أن التهم التي يصرّ عليها الغرب، بقيادة واشنطن، والتي وصلت إلى حد إجلاء الدبلوماسيين من السفارات في كييف، ووضع أوروبا على حافة البركان، ليست سوى ذر للرماد في العيون، ومحاولة لدفع تيارات متطرفة داخل أوكرانيا للقيام بحماقات ومغامرات غير محسوبة ضد الجمهوريتين غير المعترف بهما في إقليم الدونباس، بينما تعرف أوكرانيا، وتعرف القيادة في كييف جيداً أن روسيا لن تغض الطرف عن أي جرائم ضد المواطنين العزل هناك.
جوهر الأمر هو أن روسيا تعرف، وأفصحت عمّا تعرفه من معلومات خطيرة تهدد أمنها، وربما كان ذلك هو السبب في إصرار الجانب الأمريكي على عدم إفصاح الروس عن فحوى الرد الأمريكي على الجانب الروسي. أفصحت روسيا عن وجود حوالي 200 قنبلة أمريكية ذات رؤوس نووية، مخصصة لاستخدامها ضد أهداف استراتيجية روسية، موجودة في خمس دول غير نووية. بل إن المخطط العسكري لـ “البنتاغون” ضد روسيا، والذي بدأ العمل عليه منذ ثلاثين سنة تقريباً، والمخطط الاقتصادي المالي، المرافق له، والذي يهدف إلى السيطرة الكاملة على روسيا، والسيطرة على موقعها الجغرافي الاستراتيجي الهام، والتحكّم بثرواتها الطبيعية الغنية، قد أصبح مكشوفاً لدى الروس. ربما هذا ما يثير حرج واشنطن؟
لقد عكفت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على توسيع القواعد العسكرية الأمريكية والبنى التحتية في بلدان محيطة بروسيا، وزوّدتها بالأنظمة الرادارية والصاروخية والرؤوس النووية لخدمة هدف السيطرة على روسيا، لكن روسيا تمكنت، بواسطة أجهزة استطلاع دقيقة تحديد مواقع كل هذه الرؤوس وعددها، وهو ما دفع بالغرب إلى حافة الهيستيريا، والتصرفات غير العقلانية، خوفاً من انقلاب المجتمع الأوروبي بأكمله ضد الولايات المتحدة الأمريكية، لتعريضها إياه للخطر الجسيم، خاصة بعد كشف تلك المواقع.
إذن فالأمر ليس “حرباً أوكرانية” ولا “هجوماً روسياً على أوكرانيا”، وإنما فضيحة أمريكية مكتملة الأركان في أوروبا، ستكلف “الأخ الأكبر” عبر الأطلسي ثمناً سياسياً باهظاً، لهذا السبب تفعل الولايات المتحدة الأمريكية ما بوسعها لإعاقة “السيل الشمالي-2″، وتدق كل الأسافين الممكنة بين روسيا وألمانيا، وبين روسيا وشركائها الأوروبيين، في غرب أوروبا، ممن ارتبطت وترتبط مصالحهم مع روسيا تاريخياً وجغرافياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، مستخدمة في ذلك صغار الدول في أوروبا الشرقية، والتي تحاول أن تكون “ملكية أكثر من الملك”، وتتسابق فيما بينها لمن يكون أكثر طاعة وولاءً للسيد الأمريكي.
يطال الأمر، أعني فضيحة الرؤوس النووية، بعض بلدان الخليج التي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية كمستودعات متقدمة، توجد في بعضها منظومات خاصة للاستخدام الاستراتيجي النووي، لإحراز تفوق عسكري نووي، حال حدوث حرب نووية بين روسيا والولايات المتحدة.
لن تشتعل حرب في أوكرانيا، والحوار بشأن الضمانات الأمنية لم تنته بعد، إلا أن روسيا لن تسمح لأحد بتجاهل مصالحها – تلك كانت كلمات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، واضحة بلا مواربة.
أما قرار أي رئيس أوكراني بالهجوم على “شعبه الأوكراني” في إقليم الدونباس، فذلك انتحار سياسي وعسكري بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وأعتقد أن الرئيس الأوكراني، المشهود له بموهبة كوميدية طاغية على خشبة المسرح، يدرك أن الفرق ما بين الهزل والجد خيط رفيع لكنه واضح، وأن خشبة المسرح الدرامي، حيث لا يموت عليها أحد جراء مزحة هنا أو طرفة هناك، تختلف اختلافاً جذرياً عن خشبة المسرح العسكري، التي يمكن أن يموت فيها البشر، إثر قرارات حمقاء، قد يصوّرها بعض المحيطين، أو الممولين، بأنها عين العقل.
أما عن العقوبات الاقتصادية “المرعبة” التي تلوّح بها الدول الغربية، فروسيا لا تستمع إلى مثل هذه التهديدات بالأساس، لكنها تؤكد على أن العقوبات بشكل عام، والاقتصادية بشكل خاص، سوف يكون لها تأثير البوميرانغ، وسوف تعود على أصحابها بأضعاف ما تؤثر به على روسيا، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية العالمية الوشيكة.
أعتقد أنه من الأفضل العودة إلى طاولات الحوار، سواء بشأن اتفاقيات مينسك، أو بشأن الضمانات الأمنية الروسية، وأظن أن الرسالة الروسية قد وصلت، ولا داعي للتأكيد عليها، وكلي أمل أن تجد آذاناً صاغية لدى العقلاء في أوروبا، ممن يعرفون جيداً معاني الحرب، والدمار، تلك المعاني التي ربما لا يدركها جيداً الشركاء في الولايات المتحدة الأمريكية.
سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم