الرئيسية » مختارات من الصحافة » زافترا: روسيا والولايات المتحدة.. التقارب الصعب

زافترا: روسيا والولايات المتحدة.. التقارب الصعب

رامي الشاعر

صدر مؤخراً بيان مشترك بين برلين وواشنطن حول مشروع “السيل الشمالي-2″، يضمن تنفيذ المشروع، بشرط ضمان استمرار ترانزيت الغاز الروسي عبر أوكرانيا بعد 2024.

كذلك تعهدت ألمانيا باستخدام كل وسائل التأثير المتاحة لديها لتمديد الاتفاقية الروسية الأوكرانية بشأن ترانزيت الغاز الروسي عبر أوكرانيا إلى أوروبا، وفرض عقوبات على روسيا، حال قامت الأخيرة باستخدام صادرات الطاقة “كسلاح” ضد الدول الأوروبية.

من جانبه، هاجم الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، سياسة خلفه، جو بايدن، التي سمحت باستكمال بناء “السيل الشمالي-2″، وقال إنه نجح في عرقلة بناء هذا المشروع، إلا أن بايدن هو من وافق على إتمامه. وتابع ترامب في كلمة ألقاها في ولاية أريزونا الأمريكية: “لقد وافق بايدن على أكبر خط أنابيب في العالم، يمتد من روسيا إلى ألمانيا، وعلينا أن ندافع عن ألمانيا.. نحن ننفق مليارات الدولارات لحماية ألمانيا من روسيا، بينما تدفع ألمانيا مليارات ومليارات الدولارات مقابل الطاقة من روسيا. ما هذا؟”

من ناحية أخرى، وفي زيارة لمستشار وزير الخارجية الأمريكية، ديريك شوليه، إلى بولندا، بحث مع السلطات البولندية دور وارسو في مكافحة “العدوان الروسي”، وكذلك مخاوف البلدين من تنفيذ مشروع “السيل الشمالي-2”. وجاء في بيان الخارجية الأمريكية حينها أن شوليه “يقيّم عالياً الدور البولندي في مواجهة العدوان الروسي، وتحريك الديمقراطية في بيلاروس”!

السيل الشمالي-2 عبارة عن خطّي أنابيب لنقل الغاز الطبيعي بطول 1200 كيلومتر، وبطاقة إجمالية تبلغ 55 مليار متر مكعب سنوياً، ينطلقان من الساحل الروسي، عبر قاع بحر البلطيق، إلى ألمانيا، ويمرّان عبر المناطق الاقتصادية الاستثنائية والمياه الإقليمية لكل من ألمانيا والدنمارك وفنلندا والسويد وروسيا. لا شك أن توقف الرئيس الأمريكي عن عرقلة هذا المشروع الضخم مع ألمانيا هو أمر بالغ الأهمية.

أعتقد أن الرئيس الأمريكي قام بذلك حتى لا ينفّر المجتمع الأوروبي من الولايات المتحدة الأمريكية، فلا أظن أن المجتمع الألماني يرتاح لحقيقة أن قوى خارجية تمنعه من تنفيذ مشروع اقتصادي مربح، تتضح جدواه الاقتصادية لجميع الأطراف المشاركة فيه. يتضامن مع الألمان في ذلك المواطنون الأوروبيون، وهو ما يكسب الأمر أبعاداً أكثر خطورة، لأن دول الاتحاد الأوروبي الأخرى ستحصل هي الأخرى على الغاز الروسي عبر ألمانيا. والسؤال المطروح هو: لماذا يمنع الأمريكيون تنفيذ خط أنابيب غاز سيكون مفيداّ للاقتصاد والبيئة والمرافق العامة في أوروبا؟

إلا أن خطاب ترامب في أريزونا لم ينتقد تصرفات بايدن فحسب، وإنما عاتب ألمانيا على عدم وضعها في الاعتبار “الحماية من روسيا” التي تسبغها الولايات المتحدة الأمريكية عليها في عطف وشفقة، بينما تنفق في ذلك مليارات الدولارات لصالح ألمانيا “ناكرة الجميل”، التي تصرف “مليارات ومليارات” على مشروع يعارض المصالح المباشرة للولايات المتحدة. ألا يعدّ ذلك إهانة لدولة كبيرة واقتصاد راسخ وأمة عريقة بحجم ألمانيا؟ وهل طلبت ألمانيا مثلاً “حمايتها” من “العدوان الروسي” ممثلاً في “السيل الشمالي-2″؟

في عام 2018، حينما زار روسيا ملايين المواطنين من جميع أنحاء العالم في كأس العالم لكرة القدم، وخاصة من أوروبا، كانت المفاجأة المدهشة للجميع في أن روسيا ليست كما يراها المواطنون البسطاء في وسائل الإعلام الغربية، وأن الشعب الروسي ليس كما يظهر على شاشات هوليوود في صورة العصابات الإجرامية ورجال المافيا. بل لمس الجميع وعلى رأسهم المواطنون الأوروبيون الحفاوة وكرم الضيافة والانفتاح على العالم لدى المواطنين الروس، وهو ما كان يتجسد سابقاً، قبل العقوبات والحصار، في الأعمال والصفقات والتبادل التجاري التي كانت بموجبها روسيا تستورد نصف استهلاكها من البضائع من أوروبا، بحكم صلات الجغرافيا والتاريخ والتكامل المنطقي بين روسيا وأوروبا. إلا أن رجال الأعمال أجبروا على المغادرة، وأصبحت أوروبا “تنفق المليارات” طلباً لـ “حماية” الولايات المتحدة الأمريكية من “العدوان الروسي”.

لقد حكم ترامب الولايات المتحدة أربع سنوات، لذلك فهو شخص يعرف جيداً المزاج العام السائد في أروقة الكونغرس والبنتاغون والمخابرات في واشنطن. وليست تعبيراته التي نطق بها في أريزونا سوى ترجمة لتوجهات بعض الأجنحة في هياكل هذه الأجهزة المؤثرة في صناعة القرار الأمريكي، والتي تقف ضد الدفء في العلاقات مع روسيا، وتواصل تحريض المجتمع الأمريكي على روسيا وتصويرها بأنها عدو لدود.

يعود السبب في ذلك بشكل رئيسي إلى موقف روسيا المؤيد لعالم متعدد الأقطاب، يستند إلى احترام المعايير الدولية وحقوق الدول في تقرير المصير ويشجب التدخل السافر لبعض الدول في الشؤون الداخلية لدول أخرى ويدعم تبادل المنفعة بين الدول لا استغلال الدول بغرض المنفعة من طرف واحد، دون اعتبار للمصالح الوطنية.

لقد أوضح الرئيس الأمريكي السابق أن “السيل الشمالي-2” غير مرغوب فيه لأنه سيساهم في تطوير روسيا وأوروبا، وليس الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت من بين مخططاتها تزويد الأوروبيين بالغاز الطبيعي المسال (وهي تقوم بذلك فعلياً). وهكذا، يؤكد ترامب مرة أخرى أن بلاده لا تهتم سوى بمصلحتها الخاصة، وعلى الآخرين تنفيذ خططها وأهدافها دون اعتبار لمصالحهم الوطنية العليا، وهو ما يتعارض مع الأعراف والقوانين الدولية، التي بني عليها النظام العالمي الراهن في مؤتمري يالطا وسان فرانسيسكو فور انتهاء الحرب العالمية الثانية. دعونا نذكر أن ميثاق هيئة الأمم المتحدة قد اعتمد في سان فرانسيسكو عام 1945.

الولايات المتحدة الأمريكية إذن تدعم الانقلاب في أوكرانيا عام 2014، وتتجاهل حق الأغلبية الروسية في شبه جزيرة القرم في تقرير مصيرها، على عكس تصرفها مع قضية استقلال كوسوفو بالمناسبة، وبعد انهيار الأوضاع الاقتصادية في أوكرانيا، جراء الانقلاب، والحرب الأهلية، والاضطرابات السياسية في البلاد، تريد أن تدفع روسيا فاتورة هذا الانقلاب، من خلال الاستمرار في دفع ترانزيت الغاز الروسي عبر أوكرانيا، وحتى وقت قريب كانت تقف بقوة ضد إتمام مشروع “السيل الشمالي-2” لهذا السبب.

لقد رحّبت شركة “غازبروم” الروسية بمشاركة ألمانيا في المباحثات حول اتفاقية عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا، وأكّدت الشركة استعدادها لضخ الغاز الروسي إلى أوروبا عبر الأراضي الأوكرانية ما بعد العام 2024، إلا أنها اشترطت أن يكون ذلك مجدياً من الناحية الاقتصادية. بمعنى أن الاقتصاد هو المحرك الأساسي لذلك، وليست السياسة. بل إن رئيس الشركة، أليكسي ميلر، أشار إلى إمكانية النظر في زيادة ترانزيت الغاز الروسي، في حال زيادة الطلب على الغاز الروسي.

أرى أن الخط الممنهج ضد روسيا قد تمت دراسته بجدية، بحيث يصعب تغييره بلقاءات ثنائية، حتى ولو كانت تلك اللقاءات على أعلى المستويات. فما الذي يمكن أن يفعله رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، إذا ما كانت السياسة الداخلية ممثلة في الكونغرس لا تزال تعتمد في ممارساتها السياسية على المكايدة، ورد الصاع صاعين، ووضع الأولويات الحزبية فوق متطلبات الأمن والسلم العالميين، ناهيك عن قواعد التفاهم والتضامن الدولي، بحيث نشأت أجيال في الولايات المتحدة الأمريكية، ترى العالم ينتهي عند حدود بلادهم، ولا يفكرون ليس فيما يحدث في البلدان الأخرى فحسب، بل في تداعيات ما تقوم به الولايات المتحدة الأمريكية من مغامرات حول العالم. ولنا عبرة فيما حدث ويحدث في أفغانستان، بعد عقدين من التدخل الأمريكي، ثم الخروج من هناك الآن، وما حدث ويحدث في العراق، بعد ما يقرب من العقدين من التدخل الأمريكي، ثم الخروج الآن، وترك البلاد للمجهول.

ربما يرغب الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بالفعل في تخفيف العقوبات على روسيا، ولو بشكل طفيف، إلا أنه لا يفعل ذلك، على الرغم من مرور شهر ونصف على اللقاء الذي جمع بينه وبين الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في جنيف، خوفاً من إفساد العلاقات مع هياكل السلطة لديه.

بعد لقاء جنيف، اخترقت سفينتان، بريطانية وهولندية، حدود المياه الإقليمية الروسية المتاخمة لساحل شبه جزيرة القرم الروسية، بدعوى أنها مياه إقليمية “أوكرانية”. تدفعني انتهاكات من هذا النوع إلى الاقتناع الكامل بموقف القيادة الروسية المتمثّل في بناء القدرات العسكرية لتعزيز الدفاع عن النفس، وحتى تكون روسيا دائماً قادرة على الرد على الأعمال العدوانية الخارجية.

وكان الرئيس الروسي قد شدّد في حديثه بمدينة سانت بطرسبرغ بمناسبة “يوم القوات البحرية” على أن الأسطول الروسي لديه كل ما يلزم لحماية المصالح الوطنية الروسية العليا. حيث تابع بوتين: “نحن قادرون على اكتشاف أي عدو تحت الماء أو على سطح الأرض أو في الجو، وتوجيه ضربة دقيقة وحاسمة إذا ما لزم الأمر”. أرى ذلك شديد الأهمية بعد الحوادث الأخيرة، وفي ظل التوجهات الواضحة من الغرب لـ “تحريك الديمقراطية” في بيلاروس، ودعم “المعارضة غير النظامية” داخل روسيا، بكل فجاجة وصلف، دون أن يكون ذلك “تدخلاً في الانتخابات” مثل التدخل الروسي المزعوم في الانتخابات الأمريكية، أو “قرصنة” شركات روسية على مؤسسات أمريكية.

بالتوازي تعكف الولايات المتحدة الأمريكية على توسيع قواعد الناتو في أوروبا، وهو ما يثير الدهشة والقلق في آن واحد. فهل لا يدرك القادة الأوروبيون أن هذا الموقف العدائي من واشنطن، يمثل تهديداً مباشراً لأمن أوروبا؟ وهل يدرك الغرب مغبة الاقتراب من الخطوط الحمراء، واللعب بالنار من خلال أوكرانيا وبيلاروس ومواصلة استفزاز الدب الروسي الهادئ.

أعتقد أن العالم قد تجاوز فكرة “أحادية القطب”، وأن الاقتصاد هو محرك السياسة وليس العكس، ولا شك أن تكتلات مثل “بريكس” و”الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” و”منظمة شنغهاي للتعاون” و”رابطة دول جنوب شرق آسيا” وغيرها من المنظمات الدولية سوف تؤكد على حقيقة “التعددية القطبية” للنظام العالمي الجديد. والدليل على ذلك، وعودة إلى قضية “السيل الشمالي-2″، فمن المقرر إجراء انتخابات البوندستاغ الألماني سبتمبر المقبل، وسيصادق البرلمان على منصب المستشار الألماني الجديد، إلا أن من سيصل للسلطة في ألمانيا، لا شك سوف يدافع عن مشروع “السيل الشمالي-2″، لا لشيء إلا لأنه يدافع عن مصلحة الشعب الألماني والشعوب الأوروبية المحيطة.

ختاماً، أتأمل في سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الدول العربية الغنية. فإذا كانت أهداف السياسة الأمريكية الخارجية تحاول قدر استطاعتها الهيمنة وتقييد حرية دولة نووية عظمى بحجم روسيا، فما بالك بالسياسة الأمريكية تجاه أشقائنا العرب؟ وماذا عن التحكم في ثروات هذه الدول مقابل سلع وخدمات استهلاكية وترفيهية لا تسمن ولا تغني ولا تحقق حتى أدنى حدود الاكتفاء الغذائي ولا أقول الصناعي أو التكنولوجي.

سيرياهوم نيوز 6 – رأي اليوم

x

‎قد يُعجبك أيضاً

“نيويورك تايمز” تنسف رواية كاذبة روجتها بشأن “اعتداءات جنسية مزعومة في الـ7 من أكتوبر”

تحدثت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية عن فيديو جديد ينسف رواية الاعتداء الجنسي المزعومة، التي سبق وأوردتها الصحيفة الأميركية ذاتها، ومفادها أن عناصر المقاومة الفلسطينية – ...