آخر الأخبار
الرئيسية » مجتمع » موتور الماء “الحرامي” والسقا.. وثقافة الاستهلاك!

موتور الماء “الحرامي” والسقا.. وثقافة الاستهلاك!

بشار الحجلي

تعود بنا الذاكرة لتلك الأيام، التي عشناها صغاراً، في ريفنا السوري، ونحن نراقب عن قرب، تلك العلاقة الحميمة، التي ربطت أهل الريف بالطبيعة، في كافة تفاصيل حياتهم، يومها لم يكن عندهم شبكات مياه.
وأجزم أنهم لم يعرفوا للماء الشروب، مصادر غير ما تجود به السماء، وتجمعه صهاريج الأرض الحجرية، والصخرية، وكانوا يخلقون الطقوس، التي تهون عليهم مشقة الحصول على الماء، ونقله مسافات على ظهور الدواب، ولست أنسى الخابية الفخارية وسمر الماء، والمنشل، وقربة الماء الباردة، يومها كل شيء طبيعي لا برادات، ولا ثلاجات على الهواء، ولا فريزة، أو “كولار” أو غير ذلك.. لم يكن يتوفر أدنى ما نحفل به اليوم، من مظاهر التكنولوجيا وأدواتها المختلفة، إلا أن المحبة كانت الزاد والزوادة، ومثلها القناعة وإرادة العطاء، وبالمحبة والتعاون والتعاضد، كانت تسير الأمور بالاتجاهات الصحيحة.
لم يكن هناك سماسرة، ولا تجار أزمات، ولم يستطع فلاح، أن ينام وجاره عطشان، أو جوعان، الواحد للكل والكل للواحد.. هكذا كنا نفهم الحياة، مع وجود العيب، والحلال والحرام، مع وجود النخوة، والغيرية بين أفراد المجتمع الواحد.. والسؤال اليوم ما الذي تغير؟!.
الجواب ببساطة: أن التكنولوجيا الحديثة وصلت كل بيت، وكثرت مظاهر الحضارة، والتمدن، ووصلت كل بيوت الريف، فصارت الحياة أسهل في الكثير من المقاييس، لكنها تعقدت أكثر مع فقدان الكثيرين لبراءتهم، وعفويتهم، فضاعت المحبة، وضاعت البوصلة واختلطت الاتجاهات.
واحدنا اليوم يشعر بالألم، وهو يرى الكثير من قرى الريف عطشى، مع أنها تقبع على خزانات من المياه الجوفية، ومعظم مياه الأمطار تذهب هدراً، لتصب في البحر، وفي أماكن أخرى، فصارت كما العيس في البيداء يقتلها الظمأ..، والأكثر من ذلك وجود قرى تعاني من مكبات القمامة، والصرف الصحي، كل ذلك وأهلها يقرعون نواقيس الخطر، فقراً وعطشا.
للحق نقول: إن الدولة، ساهمت بحفر عدد من الآبار، لكن معظمهما خارج الخدمة، وهنا باتت الفرص مفتوحة على مصاريعها لتجار الأزمات، فازدهر باعة المياه، وصارت القصة، تجارة مربحة، أمام شح مصادر المياه، فبات سعر نقلة الماء يتراوح ببن ٢٠- ٤٠ ألف ليرة، وهذا ما لا طاقة للناس به، أمام حاجة الأسرة، لنقلتي مياه بالشهر كحد أدنى.
وفي المدن، الحال ليست بأفضل كثيراً، فالعوز المائي، يصيب كل المناطق بلا استثناء، وفي طرقاتها نشاهد، ونسمع أصوات باعة المياه ينادون على بضاعتهم، والماء لمن يدفع, أما مياه “الحكومة” فهي عالية المقام، تأتي بالقطارة، وخاضعة لتقنين قاسٍ، وحضورها الكريم، يحتاج طقوساً من الانتظار والسهر لساعات، ومتابعة موتورات الماء، التي لا تعمل دون كهرباء! وهنا حكاية أخرى، وفيها مواجع كثيرة، وشجون.
المهم أن المواطن بات ينتظر الكهرباء، كما ينتظر الرسائل الذكية للسكر، والرز, والمحروقات, وهنا لن أتحدث عن مياه “السورية” المقننة أصلاً، والخاضعة لبورصة الأسعار، بين الباعة والصالات, والرسائل الخاصة، المشكلة مع توفر مياه “الحكومة” لا تنتهي هنا، حتى وإن جاءت الكهرباء، فيفوز بالماء من يملك الموتور “الحرامي” الذي يشفط حصة الحي، هذا غير التعديات على الشبكة وسرقتها وغير ذلك.
المضحك أن الناس بدلاً من التفكير، بحلول، تراها تطلق صراعاً وشجاراً، مع جيرانها، لأتفه سبب، طبعاً، بلا أي حساب لكرامات الناس أو لوقت أو زمن!.
حقيقة لقد تغير الكثير, فنحن لم نعد نحن! ومثلنا الكثيرون، وزمن الاستهلاك، يضرب بقوة، حتى أنه بسط سلطاته على كل ما عندنا، وما حولنا ، وزمن “الحرامية ” لا يتحكم بحركة المياه وحدها!.
إننا في الزمن الصعب، ونستذكر اليوم أيام السقا، الذي مات داخلنا منذ وقت بعيد، فماذا بقي لدينا سوى صرخة موجوع، محب لبلده وأهله ووطنه، صرخة إنسان، يفكر بحلول لما نحن فيه، ولا يكتفي بالشتائم، نحتاج دعوة صادقة لنطلق الإنسان القابع داخلنا، والوطني المتأصل في دمنا، لنبدأ من ذواتنا، نحتاج صرخة تسمي الأشياء بأسمائها، ونلفظ ما حولنا من شوائب، ونستأصل ما بجسد الوطن من أمراض، مهما صعبت، فمواجهة المرض بعد تشخيصه هي معظم العلاج، إن لم تكن أساسه.. فسقى الله أيام زمان.. والسقيا لأيامنا، وأيامكم القادمات، والماء الشروب لبنت السلطان ولنا جميعاً.

سيرياهوم نيوز 6 – الثورة

x

‎قد يُعجبك أيضاً

متقاعدون يعودون إلى ميدان العمل من بوابة الحاجة..

يضطرّ العديد من العمال المتقاعدين إلى الالتحاق بعمل مجدداً بدلاً من الراحة، بعد أن قضى معظمهم سنوات طويلة تزيد على ٣٠ عاماً وهم يخدمون في ...