| عبدالمنعم علي عيسى
يمكن قراءة الحراك العسكري الذي شهدته مناطق الشمال السوري في غضون الأسابيع القليلة الماضية على أنه يمثل خطوة استباقية سعت إليها أنقرة للالتفاف على مسعى أميركي يرمي لسحب البساط من تحت قدميها، والشاهد هو أن واشنطن ما انفكت تمضي في مساعيها للشد بـ«الائتلاف السوري» المعارض نحو فضاءاتها انطلاقاً من اللعب على وتر التقارب السوري- التركي الذي قد يطيح بالدور المستقبلي الذي يمكن لذلك «الائتلاف» لعبه في أي تسوية سياسية مفترضة، تشير معطياتها الراهنة إلى أنها ليست بقريبة، هذا إن لم تكن تشير إلى أنها مهددة بالعودة إلى مربعاتها الأولى تلك التي سادت في غضون الأعوام الأولى من اندلاع الأزمة في البلاد ربيع العام 2011.
سعت الولايات المتحدة ولا تزال، نحو استمالة «الائتلاف» المعارض ومحاولة إخراجه من الدوران في الفلك التركي، وفي هذا السياق جاء الإغراء المالي الذي تمثل في المبادرة التي طرحها مستثمرون أميركيون من أصول سورية قبل نحو أسابيع، وهي تقوم على تقديم رساميل لـ«إنعاش» المنطقة التي تسيطر عليها فصائل موالية لأنقرة، وإنشاء بنى تحتية داعمة للهيكلية التي تقوم عليها تلك الفصائل، والفعل برمته يستند إلى استثناء بعض المناطق في الشمال السوري من العقوبات التي أقرتها الحكومة الأميركية على نظيرتها السورية تحت مسمى «قانون قيصر» الذي دخل حيز التنفيذ 17 حزيران من العام 2020، والذي هدفت الولايات المتحدة من خلاله إلى «إنهاء الحرب» في سورية من خلال عملية سياسية تكون بقيادتها، وفي حينها كانت واشنطن تنظر إلى الدور التركي على أنه أقرب إلى سياساتها فيما يخص المرامي التي تريد الذهاب إليها في سياق إنضاج تسوية سياسية من شأنها أن تشكل خاتمة للحرب الدائرة في سورية وعليها، ولكن حسب رؤية ومصالح واشنطن.
وفي شهر تموز المنصرم، شهدت طهران قمة ثلاثية جمعتها إلى جانب كل من موسكو وأنقرة، وفي تلك القمة، حصلت الأولى والثانية على وعد من الأخيرة بالولوج في مقاربة جديدة للملف السوري بما فيه الانخراط في مفاوضات سياسية مع الحكومة السورية حول مجمل الملفات العالقة ما راحت تتكشف فصوله التي لم تتوقف حتى الآن، وإن كان الفعل قد اعتراه بعض «البرود» مؤخراً، وهو أمر لا يخرج عن الطبيعي قياساً للحاجز الذي أوجدته تباعدات الأعوام العشرة، ثم قياساً لثقل الملفات التي تحتوي تباعداً في المطالب يظهر للناظر أن من الصعب إحداث تقاربات فيها، ثم شهد هذا السياق محطة مهمة كانت في العاصمة الكازخستانية التي احتضنت شهر تشرين الأول مؤتمر «التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا»، وعلى هامش هذه الأخيرة تلقت أنقرة عرضاً روسياً مغرياً، فقد عرض الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على نظيره التركي رجب طيب أردوغان في لقائه الحاصل على هامش ذلك المؤتمر، أن تلعب أنقرة دور «الوكيل الحصري» للغاز الروسي المصدر إلى أوروبا، وكلا المحطتين أفرزتا انزياحاً تركياً باتجاه موسكو وفق المنظور الأميركي الذي ارتأى أن أنقرة خرجت تماماً عن الخطة الأميركية التي يرسمها «قيصر» لطي صفحة الأزمة السورية.
في غضون المسعى الأميركي، الذي نقصد به محاولة سحب البساط من تحت قدمي أنقرة في الشمال السوري، اكتشفت أن الجهود لن تثمر كما يجب، أو أنها لن تعطي المرامي المرجوة منها، الأمر الذي دفع بواشنطن نحو نقل تلك الجهود، إلى الجنوب، وتحديداً إلى التنف ومحيطها، حيث يمتلك الأميركيون القاعدة الأهم لهم على الأراضي السورية، ففي غضون الأسبوعين الفائتين شهدت تلك المنطقة حدثان لافتان لجهة تداخلهما ببعضهما بعضاً، فقد جرى إعفاء مهند الطلاع قائد ما يسمى «جيش المغاوير» من مهامه ثم تعيين فريد القاسم بديلاً منه، بعد تغيير اسم هذا الجيش الأخير ليصبح «جيش سورية الحرة»، وللاسم دلالاته فإقحام اسم سورية لا يمكن أن يكون عبثيا، وإذا ما أضفنا للفعل السابق أن الفصيل الجديد، الذي ضم إليه أفراداً من مجموعات تآكلت بفعل عوامل عدة بغرض التوسعة، راح يضع على الطاولات التي تنعقد من حولها اجتماعاته علم المعارضة السورية ذي النجمات الحمر الثلاث، والأمر واضح الرمزية هنا، فواشنطن تسعى إلى تشكيل جسم سياسي – عسكري يكون بديلاً في تمثيل «المعارضة السورية» في المحافل الدولية في حال وصلت جهودها في الشد بـ«الائتلاف» إلى طريق مسدود، وفي التفاصيل تبدو واشنطن ساعية إلى شبك «قسد» و«مسد» مع هذا «الجسم» الذي ستعمل أيضاً على تطعيمه بأسماء تجاوزتها الأحداث قياساً لكونها ارتبطت بمحطات كانت لحظية أو إن الاحتياج إليها كان مرتهناً بمراحل كانت تتطلبها إدارة الصراع كما يبدو، والصورة هذه، فيما لو أضحت واقعاً فإنها ستزيد المشهد السوري تعقيداً وربما بدرجة أكبر مما كان عليها قبيل انطلاق «مسار أستانا» للحل السوري.
وفي التقديرات، التي تهدف إلى تحديد نسبة النجاح التي يتمتع بها سيناريو كهذا، يمكن القول: إنه وعلى الرغم من التحولات الدولية الحاصلة ما بعد 24 شباط 2022، وهي بالتأكيد كبيرة بدرجة يصعب معها القول: إن عالمنا اليوم شبيه بذاك الذي كان قائماً قبل هذا التاريخ الأخير، فإن «الحدث»، والصورة التي يظهر عليها في كثير من فضاءات العالم، لا يزال حيث تتركز «الكاميرا» الأميركية الكفيلة بإظهار حجمه، وكذا اشتعاله أو خبوه، تبعاً للأجندة التي يعتمــدها مــن يقرر الواقف وراء العدسة.
سيرياهوم نيوز3 – الوطن