| نقولا ناصيف
كلٌّ ممن سبق رياض سلامة إلى حاكمية مصرف لبنان غادر منصبه كمثل يوم دخل إليه آمناً: فيليب تقلا ظل يُعيّن وزيراً للخارجية، الياس سركيس صار رئيساً للجمهورية، ميشال الخوري تقاعد وهو على مشارف مئويته اليوم، إدمون نعيم انتُخب نائباً. الموارنة الثلاثة الأخيرون راموا رئاسة البلاد، فلم يفز بها إلا ثانيهم. إلا أن أحداً لا يعرف كيف سيغادر سلامة خامسهم، الأطول عمراً من بينهم، وأين يكون؟
منتصف ليل 31 تموز هو آخر موعد للحاكم المنتهية ولايته رياض سلامة في مكتبه في مصرف لبنان مُذ اتّخذه مسكناً له بعد 17 تشرين الأول 2019. دخل إليه بقرار من الرئيس رفيق الحريري ويغادره وحيداً. آخر مَن تبقّى من رموز الحريرية السياسية في نظام ما بعد اتفاق الطائف. يوم تسلّمه منصبَه كان محاطاً بطبقة سياسية منبثقة من انتخابات 1992 أضحت تدريجاً، بعد اغتيال الحريري، ملاذه. احتمى أولاً بمَن عُدّ الوارث الموقّت للرئيس الراحل في الحكم الرئيس فؤاد السنيورة رئيس حكومة الغالبية عام 2005، ثم صار منذ عام 2009 في حمى الرئيس سعد الحريري الذي لم يتردد في أن يطلب عام 2015 ـ وهو يفاوض النائب السابق سليمان فرنجية على تأييد انتخابه رئيساً للجمهورية ـ إبقاء سلامة في منصبه. ما لم يحزه من فرنجية أعطاه إياه الرئيس ميشال عون في التسوية البديلة المبرمة السنة التالية، بإعادة تعيينه عام 2017 لولاية جديدة. باندلاع أحداث 17 تشرين الأول 2019 أضحى سلامة في حمى الطبقة السياسية برمّتها، بخليطها الطائفي ونفوذها لستر ارتكاباته على مرّ العقود المنصرمة في ما تواطأ والطبقة نفسها عليه معها. في آخر الشهر يخرج وحيداً وتبقى بعده. من غير المستبعد أن لا تتنصل منه بمرور الوقت. ليس وحده المسؤول إلا أنه واجهةُ ما حدث وقَبِلَ بأن يفعل.
يوم قيل قبل ثلاثة عقود إنه سيكون الحاكم المقبل لمصرف لبنان بعد ميشال الخوري، ظُن أنه اكتشاف استثنائي. في الواقع رُوَّج له دونما أن ينتفخ حجمه أكثر من أنه موظف يستمد دوره ـ لا موقعه ـ من كونه أحد مساعدي الحريري الأب الموثوق به الملمّ بمهنته والكفيّ. أعدّ الرئيس الراحل بعناية إيصاله إلى منصبه تدريجاً. طلب أولاً من سلفه ميشال الخوري التنحي الإرادي قبل انتهاء ولايته بأن شجّعه على الاستقالة قبل سنتين من موعد انتخابات رئاسة الجمهورية المقرّرة عام 1995، عملاً بالمادة 49 من الدستور، كي يتسنى له الترشح ويدعم بدوره إيصال المرشح المزمن منذ عام 1970 إلى المنصب خلفاً للرئيس الياس هراوي.
الخطوة التالية، طلب الحريري من النواب الأربعة للحاكم (محفوظ سكينة ومروان غندور وغسان عياش وكارابيت كالاجديان) الاستقالة الطوعية هم الآخرون قبل سنة ونصف سنة من نهاية ولايتهم تمهيداً لإرفاق تعيين سلامة على رأس مصرف لبنان عامذاك بفريق عمله. أعد لإقصائهم بالتحدث إلى مرجعياتهم وحصل على موافقتهم الفورية بالتخلي عنهم. أقرن هذا الإجراء بإيفاد وزير الدولة للشؤون المالية فؤاد السنيورة إلى الرئيس سليم الحص الذي كان على رأس حكومته عيّن النواب الأربعة أولئك في كانون الثاني 1990، كي يحوز تأييده إبعادهم عن مناصبهم لإحلال طاقم جديد. سأل الحص الوزير الزائر هل هم مرتكبون؟ فردّ بالنفي. أخطره بأن في وسع الحكومة أن تفعل ما تريد إن أرغموا على الاستقالة إلا أن في وسعهم أيضاً هم مقاضاتها لدى مجلس شورى الدولة والحصول على قرار بنيلهم تعويضات السنوات الخمس كاملة في ولايتهم وإن أبعدوا عنها قبل سنة ونصف سنة من موعدها. أطلع السنيورة الحريري على الجواب، فكان الجواب على الجواب، المألوف لدى رئيس الحكومة، تسديد تعويضات السنوات الخمس والتخلص منهم. ذلك ما حصل في 31 تموز 1993. راتب نائب الحاكم آنذاك 1800 دولار أميركي، فيما استهلّ خلفاؤهم النواب الأربعة الجدد ولايتهم مطلع الشهر التالي براتب 20 ألف دولار شهرياً. يوم طلب منهم الحريري الاستقالة الطوعية في حضور ميشال الخوري والسنيورة، تذرّع بإعادة تنظيم المؤسسات في مرحلة ما بعد وصوله إلى رئاسة الحكومة، واعداً بعضهم بإبقائهم في مناصب عالية في القطاع العام كانت في الواقع ثانوية قياساً بما كانوا عليه، بيد أن المطلوب التخلص منهم لإحاطة نفسه بسلامة وفريقه وإن بتسمية مرجعياتهم الطائفية الجديدة في مرحلة ما بعد انتخابات 1992.
ماذا لو خرجت من الجارور سابقة ميشال الخوري عام 1984؟
حدث ذلك في الماضي كي يدخل سلامة محاطاً براعٍ استثنائي هو الحريري. بانقضاء العقود الثلاثة يغادر منصبه متنكباً ـ إلى الجوائز التي نالها كأحسن حاكم مصرف مركزي شرق أوسطي ـ استنابتين من الإنتربول وملاحقة سبع دول أوروبية له وحجزاً على أملاكه وأرصدته وعشرات الدعاوى وادّعاء الدولة اللبنانية عليه. إلى كمّ من الفضائح مرتبطة باتهامات شتى من بينها اختلاس وتبييض أموال وإثراء غير مشروع وتزوير، قبل الوصول إلى يوم تغسل فيه الطبقة السياسية يدها منه كما فعل بعضها من قبل عندما غسلوا أيديهم من دمشق وارتكاباتهم في الحقبة السورية بكل ما انطوت عليه من إثراء وإهدار مال عام ومناصب.
يبدو ذلك كله أيضاً من الماضي.
إلى أن يرحل الرجل أخيراً لا تزال المرحلة التالية غامضة. نوابه الأربعة الحاليون هدّدوا بالاستقالة ما لم تُطلق أيديهم في إدارة السياسة النقدية في المرحلة المقبلة بما في ذلك وقف تدخّل السياسيين في شؤونهم وفي إجراءات قد يعتزمون اتخاذها، مع أنهم يعرفون سلفاً أنهم ودائع مرجعياتهم في مصرف لبنان. استقالتهم الجماعية المزمع الإعلان عنها لا تصبح نافذة ما لم يوافق مجلس الوزراء عليها. إذا وافق يطلب منهم تسيير أعمال مصرف لبنان ريثما يُعيّن حاكم جديد ونواب حاكم جدد. في الأثناء هذه يتحمّلون التبعات والمسؤوليات كاملة وإن حُسبوا مستقيلين. ليس في وسع حكومة تصريف الأعمال الالتئام لتعيين خلف لسلامة في ظل رفض حزب الله ـ وهو الأصل في القرار ـ المشاركة في الجلسة، ناهيك برفض القوى المسيحية هذا التعيين. بدوره الرئيس نجيب ميقاتي جزم بعدم تعيين خلف لسلامة. قال أيضاً بعدم تمديد ولاية الحاكم الراحل قريباً، مع أن الخيار لم يُطوَ تماماً في ظل استمرار عرقلة الوصول إلى المخارج المقبولة الانتقالية، من بينها تسلّم النائب الأول الشيعي وسيم منصوري صلاحيات الحاكم. على أن تأكيد الأفرقاء المعنيين أن سلامة لن يبقى في منصبه بانتهاء ولايته منتصف ليل 31 تموز لا يحول دون التفكير في سابقة موقّتة انتقالية كانت قد حدثت.
في 4 أيلول 1984 أصدرت حكومة الرئيس رشيد كرامي في عهد الرئيس أمين الجميّل القرار الرقم 3 بناءً على اقتراح وزير المال الرئيس كميل شمعون وموافقة كرامي، قضى بـ»الطلب إلى حاكم مصرف لبنان ميشال الخوري متابعة ممارسة مهماته إلى أن يتم تعيين حاكم ونواب حاكم للمصرف». كانت انقضت ولاية ميشال الخوري وتعذّر الاتفاق على خلفه فاستمر في منصبه طوال أربعة أشهر إضافية خلافاً لقانون النقد والتسليف المحدِّد ولاية الحاكم بست سنوات لا تزيد يوماً ولا تنقص آخر، إلى أن عيّن مجلس الوزراء في 15 كانون الثاني 1985 الدكتور إدمون نعيم خلفاً له بالمرسوم الرقم 2189. في الجلسة نفسها عُيّن أيضاً ثلاثة نواب جدد هم الأول الشيعي حسين كنعان والثاني الدرزي مجيد جنبلاط والثالث السنّي سمير عكاري. بعد خمسة أشهر في 6 أيار عُيّن رابعهم الأرمني مكرديش بولدغيان.
سيرياهوم نيوز3 – الأخبار