آخر الأخبار
الرئيسية » إدارة وأبحاث ومبادرات » الرسوم الجمركية كنظام عقوبات بديل

الرسوم الجمركية كنظام عقوبات بديل

 

ورد كاسوحة

 

 

الارتياح الذي أبدته الأسواق قبل شهر من الآن، ليس نتاج الاتفاق التجاري بين الصين والولايات المتحدة فحسب، بل ثمّة أيضاً مقاربة نقدية وصلت إلى نهايتها، مع شروع الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة، على نحو لا يجعل من سياسات التحوّط (التي لجأ إليها المستثمرون لتفادي التقلّبات النقدية الشديدة وأثَر الرسوم الجمركية الأميركيّة على التجارة الدولية) أمراً مستداماً.

 

لجوء المستثمرين إلى الملاذات الآمنة، كالذهب أو الفضّة والبلاتين، ليس بالأمر غير الاعتيادي في مراحل الانتقال بين التضخّم والركود أو العكس، حيث غالباً ما تكون قوّة الدولار بفعل رفع أسعار الفائدة عاملاً غير مساعِد على الانتعاش الاقتصادي. وهو ما يدفع دائماً بالاحتياطي الفيدرالي، بعد كلّ دورة رفع للفائدة واحتواء للتضخُّم، إلى عكس المسار، بغية تحفيز الاستثمار والإنفاق وتسييل القروض على نطاقٍ واسع، حتى لو لم يكن ثمّة تسلسلٌ مستمرّ ومستدام في خفض أسعار الفائدة، مخافة عودة التضخُّم من جديد.

 

الرسوم كمحفّز إضافي لزيادة التقلُّبات النقدية

ما أخَّرَ خفض الاحتياطي الفيدرالي سعرَ الفائدة هذه المرّة، هو المعطى الجديد الذي مثّلته الرسوم الجمركية، التي فرضتها إدارة ترامب على الخصوم والحلفاء معاً. فالتضخّم الذي كان مُستهدَفاً عبر السياسة النقدية الانكماشية، بالخفض إلى نسبة لا تتجاوز الـ 2%، أخَذَ مع الكلفة التي أضافتها الرسوم على عمليات الإنتاج والتجارة وحتى الاستهلاك، دفعةً إضافيةً، إذ صار من المتعذّر التحكّم فيه، بمجرّد عكس اتجاه السياسة النقدية، عبر الانتقال من أسعار الفائدة المرتفعة إلى نظيرَتها المنخفِضة.

 

هذا أضاف إلى التقلّبات النقدية الشديدة التي تشهدها الاقتصادات الرأسمالية منذ أزمة الجائحة والركود الذي أعقَبها، عاملاً لا يعقِّد فحسب عملية الانتقال من سياسات التشديد إلى نظيرَتها الخاصّة بالتيسير، بل يكبح أيضاً دورة رأس المال نفسها، عبر جعل حالة التضخّم التي تميّز المراحل الانتقالية مستدامةً، بدلَ أن تكون مؤقّتة، وبمثابة حافز أيضاً، للانتهاء من سياسات التشديد، والبدء بتوفير السيولة في الأسواق بين أيدي الشركات والأفراد.

 

بالنسبة إلى إدارة ترامب، لا يمثّل هاجس استدامة التضخُّم على ضوء استمرار فرض الرسوم على الحلفاء والخصوم، مشكلةً كبيرة، كون الأولويات هنا مختلفة، بين منهج الجمهوريين النقدي والسياسات النقدية والتجارية لباقي الدول والمؤسّسات الرأسمالية، بما في ذلك الاحتياطي الفيدرالي نفسه. فبينما تتطلّع معظم الدول التي طالتها رسوم ترامب، إلى الانتهاء من أزمة التضخُّم، عبر الشروع في خفض أسعار الفائدة، كما أعطى الإشارة بذلك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، تبدو إدارة ترامب مشغولةً أكثر باستمرار تصحيح الميزان التجاري مع الدول لمصلحتها، ولو أدّى ذلك إلى استدامة التضخُّم، وبالتالي إعاقة الانتقال من حالة الركود إلى نظيرتها الخاصّة بتشغيل الاقتصاد، من خلال تسييل القروض سوقياً للأفراد والشركات.

 

هذا لا يعقّد الآليات النقدية الخاصّة بالحدّ من التقلّبات النقدية فحسب، بل يجعل من سياسة الرسوم التي تؤخّر الانتقال من التضخّم إلى الانتعاش الاقتصادي، عنصراً مستداماً، أقلَّه في هذه المرحلة التي تَسِم فيها الترامبيةُ التجارةَ الدولية بطابعها الحمائي المفرِط.

 

الاستعاضة عن أداة العقوبات بالتعرفات الجمركية

الاستدامة الجزئية نابعة هنا من كون الرسوم الجمركية هي الأداة الجديدة التي تستخدمها إدارة ترامب كبديل عن سياسة العقوبات التقليدية، حيث يبدو من فرط استخدامها ومنهجيّته على نطاقات أوسع مما كانت عليه في الولاية الأولى للرجل، أنها أصبحت «الورقة الرابحة» في يد الإدارة الحالية، لجرّ الخصوم والحلفاء، على حدٍّ سواء، إلى تنازلات تجارية واقتصادية، يتعذّر تقديمها بغير هذه الوسيلة، غير التقليدية في الابتزاز السياسي والاقتصادي.

 

الفائدة من الرسوم التي يمثّلها التقليل من العجز التجاري للولايات المتحدة مع باقي الدول، التي تتمتّع بأفضلية تنافسية معها، تتحوّل مع الانتقال إلى العملية التجارية في الداخل الأميركي إلى مروحة من المكاسب والخسائر معاً

 

والحال أنّ الفوارق بين الاستخدام الأداتي لكلٍّ من الرسوم الجمركية والعقوبات التقليدية ليست كبيرة جداً، لجهة تسخير الأدوات التجارية التي يوفرها حجم الاقتصاد الأميركي، بغية الحصول على تنازلات اقتصادية من الخصوم الجيوسياسيين، وصولاً إلى الحلفاء، في حال حصول انعطافة في تعريف هذه الإدارة أو تلك، للدور الذي يفترض بالولايات المتحدة القيام به على الصعيد الدولي. هذا يعكِس، في حالات متطرّفة مثل تلك التي تعبّر عنها إدارة ترامب حالياً، منظوراً مختلفاً لكيفيّة حصول التبادلات التجارية بين الولايات المتحدة وباقي دول العالم، بما في ذلك حلفاء واشنطن التقليديين.

 

فالأشكال والهياكل التي كانت تقوم عليها التجارة الدولية، حين كان الانخراط في العولمة والأطر التجارية المتعدّدة الأطراف على أشدّه، لم تعد تتناسب، ليس فقط مع الأجندة الحمائية للإدارة الحالية، بل كذلك مع التصوّر الجديد للعقوبات التجارية، حيث لا ينفصل الحدّ من وصول المعاقَبين إلى الأسواق المالية والتجارية الدولية، عن تحقيق التراكم في المبادلات التجارية لمصلحة الولايات المتحدة، عبر تصفير العجز التجاري، والحدّ من تنافسية الخصوم والحلفاء، أيضاً لمصلحة القدرة الأميركية على الاضطلاع بالدور الأكبر في العمليات التجارية على مستوى العالم.

 

فلسفة نظام الرسوم

في نظام العقوبات السابق على فرض الرسوم الجمركية، كان المنع يحصل على نحو استباقي، فلا يُسمَح للخصوم الجيوسياسيين أو التجاريين، بالوصول إلى الأسواق الدولية كما يجب. وإذا استطاعوا النفاذ إلى هذه الأسواق، بفضل حجم اقتصادهم أو حاجة الأسواق إلى الموارد والأصول الطبيعية الكبيرة التي يمتلكونها، تُوضَع عراقيل أمامهم لاحقاً على شكل عقوبات على الشركات والحكومات التي تتعامل معهم تجارياً، بغرض منعهم من تحقيق أرباح كبيرة أو تحصيل عوائد تسمح بتكبير حصّتهم من التجارة الدولية، التي ترغب الولايات المتحدة في إبقائها ضمن هياكل وأُطُر يمكن احتواؤُها أو إمساكها من الخلف.

 

هذا المنهج كان ملائِماً للسياسات التجارية الخاصّة بالديموقراطيين والجمهوريين التقليديين، لكن مع بروز الحمائية مع ترامب تغيّرت أولويات السياسة التجارية للولايات المتحدة جذرياً، إذ صارت التنافسية مع الخصوم التجاريين والجيوسياسيين «مُتاحة أكثر»، ولكن بطريقة لا تجعلها تصبّ في مصلحة الخصوم، كما كانت عليه الحال دائماً في الحقبات السابقة. وهذا ما يفسِّر ميل الحمائية الجمهورية، إذا صحّ التعبير، إلى استبعاد العقوبات من سلّة الأدوات التجارية في مواجهة الخصوم، لمصلحة الرسوم الجمركية، كون المنع من الوصول إلى الأسواق عبر القيود المشدّدة هو بمثابة إعاقة كاملة للتجارة، حتى خارج حدود الولايات المتحدة.

 

هذا في حين تبدو الرسوم الجمركية كديناميّة عكسية أو نقيضة، حيث يترافق فيها السماح بتدفُّق السلع والخدمات والرساميل من الخصوم بقيود تنتمي إلى البنية الداخلية للتجارة نفسها، عبر تعظيم أثر الرسوم، لتصبح بمثابة ضريبة على التراكم الرأسمالي الذي لا تستطيع الولايات المتحدة التحكّم فيه، إلا عند حدودها.

 

الفائدة من الرسوم التي يمثّلها التقليل من العجز التجاري للولايات المتحدة مع باقي الدول، التي تتمتّع بأفضلية تنافسية معها، تتحوّل مع الانتقال إلى العملية التجارية في الداخل الأميركي إلى مروحة من المكاسب والخسائر معاً. أي تصبح الفوائد الجمّة التي جَنَتها واشنطن بقيادة ترامب، من تصحيح الخلل في الميزان التجاري مع باقي الدول لمصلحتها، نسبيةً إلى حدٍّ كبير، لا سيّما حين تحصل معاينة واضحة لأثر الرسوم على الطلب الإجمالي للمستهلكين الأميركيين في الداخل.

 

ذلك أنّ الطلب هناك على السلع المستورَدة التي باتت مقيّدة بالتعرفات الجمركية يضاهي نظيره الخاصّ بالسلع المحلّية، إن لم يكن يتجاوزه أحياناً، لا سيما بالنسبة إلى البضائع الصينية والأوروبية. التكلفة التي تتسبّب فيها الرسوم على هذه التدفّقات السلعية الخارجية تنعكس سلباً على تسعيرتها لدى حلقات التوريد والتجارة الداخلية، فتصبح كِلفتها المرتفعة بمثابة حاجز يحول دون شرائِها بالأسعار السابقة على فرض الرسوم، والتي كانت تسمح بتداول السلع المصنعة خارجياً على نطاقٍ أوسع.

 

خاتمة

هنا يصبح الأثَر السابق لرفع أسعار الفائدة أقلَّ مما هو عليه عادةً في مراحل الانتقال من التشديد إلى التحفيز النقديين. فما تفعله الرسوم هنا حين تتحوّل إلى ضرائب بديلة على السلع والخدمات المستورَدة هو بالضبط محو الفاعلية النقدية لعلاجات التضخُّم الخاصّة بأسعار الفائدة، وبالتالي إعادة الاقتصاد إلى المرحلة السابقة لفرض سياسة التشديد، حيث أثَر التضخُّم على الاقتصاد كبير ومستمرّ، ولكن هذه المرّة من دون قدرة على كبحه بسبب عامل الرسوم الجمركيّة الذي أضاف إلى العناصر الداخلية التي تحفِّز التضخم، مثل الطلب وتسييل القروض والاستثمارات، عنصراً خارجياً يتعلّق بجعل الضرائب الخارجية على الدول والشركات والمستوردين أكبر من نظيرتها الداخلية.

 

هذا يجعل التقلُّبات النقدية التي كانت مستهدَفة بسياسة رفع أسعار الفائدة، بغية الحدّ منها ومن تأثيرها السالب على النموّ الاقتصادي، أكثرَ استدامةً. فأسعار المعادن التي يتمّ اللجوء إليها للتحوّط من التقلُّبات النقدية الشديدة لا تعود مع الأثَر الخاصّ بالرسوم منتظَمة أو خاضعة لدورات الركود والتضخُّم المتعاقِبة، بدليل ما يحصل حالياً مع أسعار الذهب. فلو لم تَتْرُك الرسوم الجمركية هذا الأثَر السالب على التضخُّم، لكان اللجوء إلى الذهب، كوسيلة للتحوّط والادخّار، أقلّ مما هو عليه حالياً، حيث يبدو المنحى المتذبذب للمعدن الأصفر متأثِّراً بشدّة بتريّث الاحتياطي الفيدرالي في تسريع وتيرة خفض أسعار الفائدة، نظراً إلى الديمومة التي تبدو عليها نسبة التضخّم، بعد مضاعفة الرسوم للضغوط التضخُّمية على الأسعار، لا سيّما بالنسبة إلى السلع المستورَدة.

 

* كاتب سوري

 

 

أخبار سوريا الوطن١-الأخبار

x

‎قد يُعجبك أيضاً

العراق.. تحديد 29 ديسمبر موعدا لأولى جلسات البرلمان الجديد

حدد الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، الثلاثاء، تاريخ 29 ديسمبر/ كانون الأول الجاري موعدا لانعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب في دورته السادسة. وأشار رشيد في ...