| حسن لافي
المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية باتت مقتنعة بأنَّ القدس عبارة عن برميل بارود، سيؤدي أي مساس بها إلى تفجير الأوضاع.
يسعى سلوك “إسرائيل” في التعامل مع المسجد الأقصى المبارك إلى فرض أمر واقع جديد، هدفه فرض سيادتها الدينية على المسجد الأقصى بالتدريج، وتكريس التقسيم المكاني والزماني داخل المسجد الأقصى وباحاته، من خلال التركيز على ما يلي:
أولاً، تكريس مسمى المصطلح التلمودي (هار هبيت) بمعنى “جبل الهيكل”، بدلاً من المسجد الأقصى. ورغم أن هذا المصطلح ليس جديداً، فقد أضيف إليه مصطلح مرافق، هو “بيت همكداش”، وهو بيت الرب “الهيكل”، واقتصر مصطلح المسجد الأقصى على المصلى القبلي، من دون أن يشمل باحات المسجد الأقصى.
ثانياً، تكريس اقتحام المستوطنين اليهود لباحات المسجد الأقصى تحت غطاء مفهوم “حرية العبادة” في الحيز المكاني الذي يسمونه “جبل الهيكل”، والمقصود به باحات المسجد الأقصى وساحاته، وحرية العبادة يُقصد بها اليهود والمسلمون معاً، وأنَّ “إسرائيل”، كما تتيح حرية العبادة للمسلمين، يجب أن تتيح حرية العبادة لليهود، والحديث ليس متركزاً فقط على حائط البراق “حائط المبكى” (هكوتل همعرفي)، بل بات يدور حول فكرة مفادها أنَّ دخول اليهود ساحات المسجد الأقصى جزء من الحق اليهودي في ممارسة العبادة والطقوس الدينيّة.
ثالثاً، تكريس التقسيم الزماني داخل المسجد الأقصى المبارك وساحاته، إذ بات من المعلوم لدى الإسرائيليين أنّ الفترة المخصّصة لليهود في المسجد الأقصى تبدأ بعد الساعة السابعة صباحاً حتى الساعة 12 ظهراً، وبالتالي يعتبر وجود المسلمين في تلك الفترة مخالفة قانونية بالنسبة إلى الشرطة الإسرائيليّة، وهذا ما يفسّر إخراج المصلين من المسجد الأقصى المبارك بهذه الهمجيّة.
لكن من الواضح أنَّ تلك المساعي الإسرائيليّة لفرض واقع يهودي جديد في المسجد الأقصى مشروطة بأن لا يقابلها رد فعل فلسطيني يجبي من الجبهة الداخلية الإسرائيلية أثماناً لا ترغب ولا تستطيع دفعها في ظل ظروفها الحالية، الأمر الَّذي لم يدركه أو يغفل عنه عضو الكنيست المتطرف بن غفير، والَّذي تركزت أهدافه حول ذاته، وحول مكاسبه السياسية الحزبية في المقام الأول. وقد تمثلت بالتالي:
أولاً، تنفيذ مسيرة الأعلام ودخولها باب العمود، الأمر الذي فشل فيه اليمين الإسرائيلي العام الماضي، وكان السبب الرئيس لإشعال معركة “سيف القدس”، وبالتالي يتحول بن غفير إلى بطل قومي لليمين الإسرائيلي الاستيطاني، وترتفع أسهمه الانتخابية.
ثانياً، إنَّ قيام هذه المسيرة أحرج نفتالي بينيت أمام نواته الانتخابية، والتي يعدّ أساسها اليمين الاستيطاني، ما يزيد الضغط على من تبقى من أعضاء في حزبه للانسحاب من الائتلاف، كما فعلت عوديت سيلمان قبل عدة أسابيع، وبالتالي تسقط الحكومة الحالية نهائياً.
رغم أنّ مسيرة الأعلام باتت تحمل الكثير من الرمزية القومية والسيادية الإسرائيلية في مدينة القدس، فإنَّ المؤسسة العسكرية والأمنية باتت مقتنعة بأنَّ القدس عبارة عن برميل بارود، سيؤدي أيّ مساس بها إلى أن يفجّر الأوضاع ويخلط كل الأوراق في الساحة الفلسطينية والإقليمية، وحتى الدولية.
لذلك، كان من الواضح أنَّ المستوى السياسي والعسكري والأمني في “إسرائيل” لا يسعى حالياً إلى مواجهة مفتوحة تحمل عنوان القدس والمسجد الأقصى، وتربط الكل الفلسطيني، على غرار معركة “سيف القدس”، وخصوصاً أنّ هناك متغيراً جديداً يفرض نفسه على الحالة الأمنية الإسرائيلية، وهو تنامي المقاومة في الضفة الغربية، والتي تحاول “إسرائيل” تركيز كل طاقاتها العسكرية والأمنية عليها، إذ ينتشر في الضفة ما يقارب 30 كتيبة عسكرية، لتعزيز السيطرة الأمنية الإسرائيلية عليها.
بالتأكيد، لا يريد أحد في المؤسسة العسكرية والأمنية الإسرائيلية أن يحدث أيّ طارئ جديد يشغله عن معركته المحتدمة في الضفة الغربية، بما تحمله من خصوصية استراتيجية تجاه الأمن القومي الإسرائيلي، وخصوصاً أنَّ مشروع التهويد التدريجي في القدس، رغم تراجع وتيرته وإجباره على التباطؤ، لا يزال يلبي حتى الآن الحد الأدنى من أهدافه الاستراتيجية في القدس.
تدرك “إسرائيل” أن دخول غزة على خط المواجهة سيجبرها على نقل الاهتمام الأمني والعسكري تجاهها، وبالتالي إفراغ هامش مهم من تعزيزاتها وقواتها من الضفة الغربية وجبهات أخرى، الأمر الذي من الممكن استغلاله فلسطينياً بعمليات فدائية أثناء المواجهة مع غزة، وبالتالي تصبح “إسرائيل” مضطرة إلى أن تقاتل على أكثر من جبهة عسكرية، الأمر الذي تحاول تفاديه باستمرار منذ تأسيس “دولتها” المؤقتة.
الجميع يدرك أنَّ معركة التهويد وفرض السيادة الدينية الصهيونية على القدس والمسجد الأقصى لم ولن تنتهي بإفشال مسيرة الأعلام، بل هي حرب مستمرة، لكن في السياق ذاته، من المهم الإدراك أنَّ معادلة القوة، والقوة فقط، تستطيع تغيير السلوك الصهيوني في القدس.
ويكفي للدلالة على ذلك الاستماع إلى نائب رئيس الأركان الإسرائيلي السابق يائير غولان، وهو يقول إنَّ “بن غفير يريد يمارس ألاعيبه على حساب دمنا ودم أبنائنا”، وإلى تصريح رئيس الوزراء اليميني الديني الاستيطاني نفتالي بينت علانية بأنه “لن يسمح لسياسات بن غفير الضيقة بأن تعرّض أمن إسرائيل للخطر”.
لنتخيَّل معاً أن الفلسطيني لا يملك خيار القوة، وأنه غير قادر على استخدامها. هل كان من الممكن أن يجتمع كلٌّ من الشاباك والجيش والشرطة، ويصدروا قراراً بمنع مسيرة الأعلام وعضو كنيست من الوصول إلى باب العمود؟
بالتأكيد، الإجابة لا. إذاً، بات مطلوباً ممن يريد الانتصار في معركة القدس أن يحافظ على خيار القوة ومراكمتها والقدرة على استخدامها في أيِّ وقت يتطلَّب الأمر استخدامها.
سيرياهوم نيوز3 – الميادين