آخر الأخبار
الرئيسية » ثقافة وفن » آمر الدهر مأمور!!

آمر الدهر مأمور!!

إسماعيل مروة

 

 

وأنت تقلب الصفحات، تأتي ذكرياتك طفلاً، وأنت ترى الأكبر منك سناً وحيويتهم، وتتذكر عضلاتهم المفتولة، وشبابهم الضاجّ، ومن بعد فرّقتهم يد الدهر في ميادين كثيرة، فهذا الطبيب البارع الذي لا تملك القدرة على لقائه من براعته وازدحام مواعيده، وترقب كيف يتحول هذا الإنسان من الطيبة والوداعة إلى شخص يجمع المال ولا يلتفت حتى لأصدقائه! وذاك المهندس الناجح الذي جمع الحسنيين الهندسة والمال، فصار مقاولاً ويملك أهم العمارات التي لا تحلم أن تستظل في ظلها! وذاك الذي صار مدرساً معروفاً، يجلس أمام طلابه، ولا يسمح لحنجرته أن تتابع الحديث بعد الدقيقة الستين، ثم يتناول ما استطاع دون شفقة من الجميع، ليخرج من بيت ويدخل في آخر، ولا مكان لأي ذكرى من ذكرياته التي تحاول استجداءها! وآخر امتهن المحاماة، ولم يعد قادراً على رؤية شيء خارج الوكالات والمال، وإن لم يملك الموكل كامل الأتعاب يمكن أن يأخذ أرضه أو بيته ليتحول إلى غول يمتلك كل شيء دون أن يجد رادعاً يردعه، وإن تحوّل إلى عاجز لا يقوى على شيء! وآخر دخل في سلك العسكرية، وارتفع في المراتب، ونسي أستاذه الذي علمه، وتغافل عن كل شيء، اللهم إلا ما يمكن ومن يمكن أن يزيده مكانة في سلكه الذي اختاره! ومن ذكرياتك تقف عند الذي لم يمتلك نصيباً، فصار عاملاً بيدين خشنتين وصوت مبحوح، وكيس ممزق من أطرافه يحمل فيه أشياءه الفقيرة! وهذا الذي ابتلي بأمراض لم يسعفه صديق ذكرياته المريض، وهذا الذي لا يجد مأوى، ولا يلتفت إليه صديق طفولته المهندس المقاول، وهذا الذي اعتدي عليه من الآخرين ويجد رفيق عمره خصمه في القضاء، وهذا الذي يحتاج ابنه لبعض دروس لم يجد كرسياً عند صديقه المدرس!!

 

المسافة لا تتجاوز في كل هذه الرحلة ثلاثة عقود، خلال ثلاثين عاماً يحدث كل هذا، وينسى أصدقاء الذكريات لعبة الطميمة، وما إن تنتهي هذه العقود الثلاثة حتى يبدأ هؤلاء جميعاً، ودون استثناء بالتهاوي كأوراق الخريف، وتقرأ أخبارهم على أوراق معلقة على الشجر أو أعمدة الكهرباء أو الجدران، والقسم الآخر لا تقرأ عنه شيئاً لأنه ما من أحد يهتم به، وما من مكانة له، وما من صالة للتعازي تفتح الأبواب له.. خلال ثلاثين عاماً يعودون أدراجهم، إلى مكان خرجوا منه، ولا يفرق بين جنازة كبيرة وأخرى صغيرة، ولن تجدي الخطيب والكلمات والمناقب في الراحل مهما علا صوت الخطيب، ومثّل الحزن والبكاء..!

 

بعيداً عن أي رؤية دينية أقول هذا الكلام، ولا أتحدث عن المآل لأنه ليس لنا معرفته، وليس بيدنا أن نحدده أو نكتشفه، أتحدث عن الحياة الدنيا التي أراها غاية في الأهمية، وعن الحياة والخاتمة لأنني أرى أن نتائج رحلاتنا نأخذها هنا بأنفسنا، ولو استعرض واحدنا سيرة أي واحد ممن سبقوه فسيجد أن ما زرعه حصده في حياته، وهذه أهم علامات الخاتمة.

 

ليس المقصود من هذا الكلام التزجية وجبر خاطر المسكين، وبأن النهاية واحدة، فهي ليست واحدة حتى في مظاهر المرض والموت، ولكنني أقولها وأنا شهدت تنافساً وتناحراً، وربما انخرطت فيه برهة من الزمن لمكانة أو اسم، وفجأة وقفت أسأل نفسي: لو أن العالم كله نعاك ومن يعرفك يعرف أنه لا قيمة إنسانية لديك فما الفائدة؟ رأيت كثيرين من المرضى والحقودين الذين يفرزون السمّ وهم يحدثونك ويسألونك عن العائلة الكريمة! رأيت وقرأت طعن الأنداد في بعضهم بعضاً للحصول على المكاسب! هل يمنع الموت عن واحدنا موقع أو منصب أو مكانة؟ هل يبقيه على قيد الحياة؟

 

رأيت كثيرين ممن تجبروا ومارسوا أقسى أنواع الطعن والأذية، رأيتهم عندما خرجوا من مواقعهم السياسية والعلمية، وهم يمثلون دور الحَمَل الوديع فهل يجدي ذلك؟ وكم رأيت ممن التفّ حول الوجاهة، فإن أخذت استراحة انفضّ عنها!!

 

يا للمعتمد بن عباد، ملك الدنيا، وحاز ما أراد، وعجن التراب بالمسك والعطر، فهل كان يلتفت للآخرين ليبكوا معه وهو يشكو بعد أن كان آمراً للدهر فصار مأموراً، وهو مأسور بأغمات في المغرب؟

 

قد كان دهرك إن تأمره ممتثلاً

 

فردّك الدهر منهياً ومأمورا

 

من بات بعدك في مُلك يسرّ به

 

فإنما بات بالأحلام مغرورا

 

سيرياهوم نيوز1-الوطن

x

‎قد يُعجبك أيضاً

قصة زواج نزار قباني من زوجته الثانية بلقيس

    متابعة:محمد عزوز   يقول نزار قباني: بلقيس هي كنز عظيم عثرت عليه مصادفه, حيث كنت أقدم أمسية شعرية في بغداد عام 1962م ويضيف:قصتنا ...