| فراس عزيز ديب
يرى مؤسِّس الصين الحديثة ماو تسي تونغ أن نجاحَ الحركات الثورية الكبرى بتحقيقِ أهدافها يجب ألا يرتبط بالنظريات الثورية فقط، إذ عليها أن تستندَ إلى معرفةٍ كاملة بالتاريخ والظروف المتغيرة من حولنا، هذا الاقتباس ضروري ربما لفهم الإستراتيجيات التي تبني عليها الدول التي تحترم نفسها مستقبلَ علاقاتها وتحالفاتها بما فيها صناعة الدور والمكانة.
في الوقت الذي كانَ فيهِ اسم الرئيس الصيني شي جي بينغ يكتسحَ وسائل الإعلام بعدَ إعادة انتخابهِ كرئيسٍ للبلاد ورئيساً للجنة العسكرية المركزية، كانت الصين تحقق انتصاراً سياسياً مدوياً عبر إعلان نجاحِ مبادرتها لإعادة العلاقات الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، صور فتحت حالَ ورودها أبوابَ التحليلات في هذا الشرقِ البائس، لكن سؤالاً بسيطاً ضاعَ وسطَ الفرحة لشعوبٍ أنهكَتها الحروب والخلافات دونما أمل بانتظارِ مستقبلٍ مختلف: هل علينا الحذر من الإفراطِ في التفاؤل؟
للإجابةِ عن هذا السؤال علينا أن نتعاطى مع الحدث انطلاقاً من الدول التي صنعته:
أولاً: الصين، فالدولة التي تستحق لقبَ الدولة اللغز لكونِها قادرة دائماً على الظهورِ من خلالِ لغزٍ ما تبدو وكأنها فعلياً تقدِّم نفسها كدولةٍ قادرة أن تكونَ وسيطاً موثوقاً لحلِّ الخلافات بين الدول، عندما نتحدث عن كلمةِ موثوق أي إنه يتمتع بالمصداقيةِ أولاً من خلال احترامهِ لخصوصيات الدول ومطابقة مطالب كل جهة مع القانون الدولي والمواثيق الدولية واحترام سيادة الدول، هذا الكلام قلناه قبلَ أسبوعين عندما تعاطينا مع المبادرة الصينية لإنهاء الحرب الأوكرانية وقلنا إن الصين ليست بالدولة المراهقة سياسياً أو الباحثة كما غيرها عن الدور والمكانة بأي ثمن لكي تطرح مبادراتٍ في الهواء، لأنها تمتلك أساساً كل هذه المقومات، كما أن الصين لم تخف طموحها بهذا الدور وهذهِ المكانة، فالرئيس شي جي بينغ أعادَ قبل عقدٍ من الزمن فكرةَ طريق الحرير الصيني إلى الواجهة لإعادة الربط بين القارات الخمس بطريقةٍ أشبهَ بما طرحه يوماً الرئيس بشار الأسد بربط البحار الخمس، بل أن الصين وقي قمة طريق الحرير 2019 ذهبت أبعدَ من ذلك بتقديم نفسها كقوةٍ عظمى لكن ليس بالأسلوب التقليدي، وهو ما اختصرناه بالقول يومها إن إستراتيجية الصين بالتعاطي مع الصلَف الغربي بُنيت على فكرة «أميركا لا تَسقط بالصراخ»، ولأن فكرة طريق الحرير أساساً بُنيت على فرضية ربط الرخاء الاقتصادي بالأمن العابر للحدود، إن إنهاء الخلافات بمعزل عن أسبابها يبدو جوهرَ السياسة الصينية وهو ربما أكثر ما قد يقلق من يقفونَ إلى الجانب الآخر لتعاظمِ الدور الصيني، قدرة الصين على لعب دور الوسيط النزيه وليس المنحاز، وهو بالمناسبة ما تعاني منه السياسة الدولية، فالولايات المتحدة التي استحوذت على دورِ الأمم المتحدة بصناعةِ الخلافات وإعادة تدويرها بدلَ حلها عانت فقدان المصداقية بسبب عدم الحياد، اليوم تتمكن الصين من تحقيقِ هذا الإنجاز الذي لا يبدو أن اكتملت معالمه بأنهُ سيكون مجردَ سطرٍ عابر في التاريخ.
ثانياً، المملكة العربية السعودية، وللحديث هنا تذكرة مهمة لمن تعاطوا بتحليلِ سياسة المملكة والطريقة التي تُدار بها المملكة على وسائلِ الإعلام، بأن هذا التعاطي إن لم يكن موضوعياً بمعزل عن الآراء المسبقة أو الاصطفافات غير المجدية، فهي تحليلات لن تلامس حقيقة أن المملكة قبل وصول الأمير محمد بن سلمان ليست كما قبله، بمعزل عن رأيكَ بهِ، لكن الوقائع لا يجب التعاطي معها انطلاقاً من الآراء الشخصية، كان البعض يرى كل ما يجري فقط من منظور القرار الأميركي علماً أن الأميركي بنزعته الاستعمارية يفضل دولاً محكومة بطريقة العصور الوسطى وليس دولاً تشهد نقلات نوعية في مجالات شتى، أهمها مجال مكافحة التطرف الديني وصلت إلى حد التبرؤ من الوهابية ومراجعة الأحاديث المدسوسة التي تسيء للإسلام والمسلمين، وهو ما لم تفعلهُ دول جذورها ضاربة في التاريخ مازالت السلطات الدينية فيها تكفِّر من ينادي بتقديم العقل على النقل!
لكن بالسياق ذاته لنعترِف بأن الحرب على اليمن كانت ولا تزال العائقَ الأهم الذي يَخفي هذا المنحى الجديد للمملكة، ربما أن الشائبة الوحيدة التي حكمت إنجازات ابن سلمان هي الحرب على اليمن التي قلنا ونعيد ونكرر إنها يجب أن تتوقف، لكن لنكن صريحين ألم تشهد حرب اليمن تدخلات إقليمية كانت المملكة أساساً تخشاها وتعتبرها أحد مسوغات الحرب؟
أخيراً لم يستسغ كثر في الإعلام الحديث نزوعاً سعودياً للتغريدِ خارج السرب الأميركي، كانوا يعتبرون ذلك ضرباً من الجنون، حتى عند حدوث معركة أسعار النفط ورفض المملكة الخضوع للمطالب الأميركية حتى بعدَ زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمملكة وطلبه منهم رسمياً زيادة الإنتاج، لم يستطع كثر من المراقبين الحديث عن الأمر في الإطار الواقعي، أي استشعار سعودي بوهن أميركي يبدو كفرصة سانحة للهروب من هذا القفص تحديداً بعد خطوات تحصين الداخل التي ساهمت بنجاة المملكة من مذبحة «ربيع الدم» العربي، علماً أن هناك من رشحها لتكون التالية بعد سورية، لكنها دعوات فشلت جميعها، إذاً هناك تغيير في المملكة وهذا التغيير حكماً لن يقف عند حدود التخلص من عبء دعم جهات على أسس مذهبية في لبنان لكنه سينسحب على الكثير من الملفات أهمها ملف الحرب على اليمن.
ثالثاً، إيران، هذا الحديث يحتاج أيضاً للكثير من الموضوعية التي لا تقل عن التعاطي مع الملف السعودي، فالجانب الإيراني ومنذ انصراف وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف بدأ يتخلص من إرثٍ حملَ معه الكثير من التوترات ليسَ لدول الجوار فحسب، نتحدث هنا حتى في الداخل الإيراني نفسه، وما له بالعلاقة مع أقرب الحلفاء، ظريف الذي كان وجوده عبارة عن ضرورةٍ مرحلية قادرة على مخاطبةِ الغرب خلالَ مفاوضات الاتفاق النووي لكونه ابن الجامعات الأميركية! كان ينحو باتجاهٍ صدامي رآهُ كثر من الدبلوماسيين الغربيين الذين يتمتعون بعلاقات جيدة مع إيران مسيئاً للوجه الحقيقي لإيران، ولعل الحديث المسرَّب لظريف الذي لم يستثن أحداً في الداخل الإيراني من هجومه، خير دليل على ما كان يصبو إليه، ولو أن البعض رآهُ ينفذ السياسات ولا يرسمها لكن بالنهاية هذهِ مبالغة غير واقعية في تحجيم دوره كوزير خارجية، هذا الإرث بدا أكثر واقعية وعقلانية مع وصول الطاقم الجديد إلى سدة الرئاسة ووزارة الخارجية، تحديداً أن فكرة الاتفاق النووي التي دافع عنها ظريف أثبتت عدمَ جدواها ما دمت مصطدماً مع الجوار لأن الضمانات الغربية سقطت، بالسياق ذاته لا تبدو إيران في وارد فتح جبهات مع أحد، لك الحق أن تختلف أو تتفق مع السياسة الإيرانية لكن ليس للإيرانيين من تصريحاتٍ يهددون أو يتوعدون فيها دول الجوار، على العكس هم كانوا دائمي التحذير لدول الجوار من عدم الانغماس بمعركة ليست معركتهم، أما موضوع القنبلة النووية التي بات الغرب يروج لها اليوم، فدول الخليج ذاتها تعرف أن السلطات الدينية في إيران حرَّمت امتلاك أسلحة كهذه، فماذا ينتظرنا؟
عندما نتحدث عن عودة العلاقات الدبلوماسية بين إيران والسعودية فنحن لا نتحدث عن مجرد دولتين متجاورتين على ضفتي الخليج العربي، نحن نتحدث عن دولتين بإمكانهما نزع أهم فتيلٍ يساهم بتسخين المنطقة بأيدي أعدائنا وهو الخلاف «السني ـ الشيعي»، فالسعودي أدركَ أنهُ ليسَ وكيلاً مذهبياً لأحد بل إن الانطلاق نحو الأمام يحتِّم على المملكة الخروج من قوقعات كهذه عفا عنها الزمن، وعلّها إيران أيضاً تدركَ الشيء ذاته تحديداً أن الانتماء لآل البيت ليس بالدم ولا بالنسب، بل بالفكر وهو ليس حكراً على حيز جغرافي أو زماني، وإن التقليل مما جرى هو مضيعة للوقت، راجعوا ما كتبه المتضررون من الاتفاق، ليست «عكاظ» السعودية ولا «كيهان» الإيرانية هي من كتبت «الاتفاق انتصار كبير للصين سيعيد تشكيل الشرق الأوسط من جديد» بل هي الـ«نيويورك تايمز»، السياق ذاته وحيث يتباكى العدو وهو يئن تحت ضربات المقاومين في فلسطين المحتلة وضربات التظاهرات التي قال عنها رئيس الكيان إنها «تهدد وجودنا» خرجت «هاآرتس» الإسرائيلية لتقول: «انتهى وإلى الأبد حلم «ناتو» عربي لضرب إيران».
طوبى لمن تعاطوا مع هذه الأفكار يومها بأنها خزعبلات لأن المملكة أكبر من الانخراط بمهلكة كهذه، والأهم طوبى لمن أوصى أحفاده بأن معرفة التاريخ هي جزء من الثورة، من دون معرفة التاريخ لن تستطيع ضبط الجغرافيا وهذا ما فعلهُ الصينيون، فهل علينا أن نتفاءل؟ نعم ومن لا يريد التفاؤل فهذه مشكلته!
سيرياهوم نيوز1-الوطن