نشرت إحدى المجلات الأمريكية مقالاً لكاتب ساخر جعل عنوانه: ”من أنا”. وجاء جوابه لنفسه عن نفسه عبارة عن قائمة من الأرقام، جاء فيها: ولدت عند تقاطع خط عرض 42 مع خط طول 63، عمري 47، طولي 175 سنتمتراً، وزني 75 كيلو جراماً، أسكن رقم 19 شارع 74، بطاقتي الشخصية رقمها 3189، رقم سيارتي 8549، رقم حسابي في البنك 63817.
هكذا أخذ الكاتب يملأ الورقة بالأرقام المختلفة، إلى أن انتهى وكتب في نهاية المقال: “هذا هو أنا”. ويبدو من خلال هذه الأرقام التي رصَّها هذا الكاتب في مقالته أنه يسخر، ولكن هذه السخرية ليست من شخصه وإنما باعثها العصر الذي نعيش فيه، والذي تحوّل الناس فيه إلى أرقام ورموز لا تشير من قريب أو بعيد إليهم باعتبارهم ذواتاً متفرّدة، لهم قلوب يفرحون ويحزنون بها، بل تحوّل أكثر الناس في ظلّ هذا التقدّم التقني إلى إحصاءات ومتوسطات وأرقام.
وحيث إنه كان من المفترض في ظل هذا التقدم التقني أن يكون له مغزى إنساني جوهره تهيئة المجال لتنمية المجتمعات وفق اعتبارات إنسانية غايتها الاعتناء بالإنسان والارتفاع بمستوى معيشته، ليكون أكثر إنسانية من قبل، إلا أنَّ هذا التقدم التقني أسفر عن انتكاسة خطيرة للذات الإنسانية التي أصبحت تعيش حالة من الاغتراب واليأس, حيث أصبح الإنسان في المجتمع الصناعي كائناً مدجناً بلا أفق ولا تاريخ، يميل بطبعه إلى الاستمرار في حالته ولا يتطلع إلى حالة أسمى”.
إن أزمة الذات الإنسانية التي أثارها التقدم التقني قد وجدت انعكاسها لدى عديد من الأدباء الغربيين الذين عبّروا عن انهزام الذات الفردية للإنسان وضياعها في تيه هذا العصر, يقول أحد هؤلاء: عُد بنا إلى أيام العراء وإلى الليل مرة أخرى وسترى الحُب الذي بدأ في “كريت” منذ أربعة آلاف سنة مضت قد انتهى بالأمس في تكساس.
سيرياهوم نيوز 2_الثورة