أمجد حداد
على الرغم من أن الصورة الظاهرة ترسم ملامح تغيير تم إقراره، أول من أمس، في بنية الدولة السورية، عبر سلسلة قرارات استراتيجية، بينها تولّي أحمد الشرع رئاسة سوريا في المرحلة الانتقالية، وحلّ الأحزاب وتجميد العمل بالدستور، تكشف نظرة سريعة أن هذه القرارات ما هي إلا تأطير لِما بدأ العمل به فعلياً منذ اليوم الأول لسقوط نظام الرئيس السابق بشار الأسد في الثامن من كانون الأول الماضي، ومحاولة تأسيس مرجعية قانونية أو دستورية تستند إلى «الشرعية الثورية» لعملية تفكيك ما تبقّى من بنية النظام السابق، والتمهيد للمرحلة المقبلة بشكل يحمل ملامح مؤسساتية. فالرجل، الذي أضحى رئيساً لسوريا، حمل لقب «القائد» منذ لحظة دخوله قصر الشعب، واستقبل والتقى مسؤولي القوى العربية والإقليمية والدولية، وناقش معهم باستفاضة نظرته إلى مستقبل البلاد، وطبيعة نظام الحكم فيها، وسياستها الاقتصادية، كما قام بتشكيل حكومة انتقالية، وفق سلطة الأمر الواقع التي فرضها، لتقوم هذه الحكومة بالقبض على مؤسسات الدولة، وتفكك ما شاءت منها، وتعيد هيكلة ما شاءت.
وهكذا، خرج الشرع منذ اللحظة الأولى بخطاب رئاسي من دون صفة رسمية، وأعلن، خلال لقاءات إعلامية، وقف العمل بالدستور، وحلّ مجلس الشعب، والدعوة إلى حوار وطني (تم تأجيله)، وتجميد العمل بالدستور، كما ناقش مع المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسن، سبل تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، وطالب بتعديله عبر السلطة التي بات يمتلكها. وبهذا، فقد انتزع مقعد الرئاسة عرفياً، قبل أن يصدر هو نفسه، عبر «إدارة العمليات العسكرية» التي يقودها، قراراً يشرعن ذلك السلوك، في محاكاة مباشرة للانقلاب الذي شهدته سوريا في عام 1966 عندما انقلب «حزب البعث» على السلطة في البلاد، وقبض على حكمها لأكثر من ستين سنة لاحقة.
وفي وقت تبدو فيه الصورة مطابقة إلى حد كبير لما جرى في سبعينيات القرن الماضي، ثمة فروق عديدة بين المرحلتين/ التجربتين؛ فبينما استغلّ «البعث» الظروف الدولية آنذاك، وقام ببناء قاعدة شعبية/ حزبية، تغلغل من خلالها في مفاصل الدولة، بعد إقصاء الخصوم، أو من يمكن أن يصبحوا كذلك، تبدو المَهمّة أكثر تعقيداً بالنسبة إلى الشرع. إذ لم يحصل، حتى الآن، إلا على اعتراف من قِبل 18 فصيلاً، من أصل أكثر من 70 فصيلاً منتشراً في الشمال والشرق والجنوب، بعضها يحظى بدعم من قوى عظمى، ما يعني أن مسألة إقصاء الخصوم تبدو في غاية الصعوبة، ولا بدّ من تنازلات يجب تقديمها، ستمنعه من الاستئثار المطلق بالحكم، والاستفراد بكتابة دستور شبيه بدستور «البعث».
المعترك الأكبر أمام الشرع وسلطته الناشئة سيكون مع قوى الأمر الواقع المنتشرة في شمال البلاد وشرقها وجنوبها
أما على صعيد المؤسسات والتشكيلات التي تم حلّها، بما فيها مجلس الشعب و«حزب البعث» وأحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية»، ومصادرة أملاك هذه الأحزاب ومنعها من إعادة تشكيل نفسها، لا يبدو أن هذا الطريق وعر أو ثمة إشكالات حقيقية منتظرة تواجهه؛ ذلك أن حزب «البعث»، بالرغم من تغلغله في جميع مفاصل الدولة، عبر سياسة الضم الإجباري التي تمّت ممارستها على مدار العقود الماضية، أُفرغ من جوهره بشكل أو بآخر، بتأخير دوره درجات عديدة إلى الوراء، في سياق السلطة المركزية التي تمنع حتى الحزب الحاكم من حكم البلاد، وتضع هذا الحكم بيد رئيس يقود الدولة وجيشها وحزبها الأكبر. وينسحب الأمر نفسه على بقية أحزاب «الجبهة الوطنية التقدمية»، التي كانت عبارة عن مكاتب صغيرة تضم بضعة أشخاص يسوّقون لسياسة «البعث» بأسماء أخرى، لضمان مقعد أو مقعدين في البرلمان.
وفيما لم يوضح القرار الذي تم الإعلان عنه مصير الأملاك التي ستتم مصادرتها، وهي أملاك كبيرة بطبيعة الحال، تضم مباني ومؤسسات عملاقة، وجامعات، ومؤسسات تعليمية وطبية، وحتى عسكرية، يثير ذلك أسئلة عديدة تقع الإجابة عنها على عاتق السلطة الجديدة في سوريا. وكانت هذه الأخيرة قد أعلنت، من دون أيّ مرجعية قانونية أو دستورية، انتقال البلاد إلى سياسة الاقتصاد الحر، على أن يتم رسم دستور وقوانين مناسبة لهذا الإجراء لاحقاً، وفق السلطة المطلقة التي باتت بيد الشرع، الذي كلّف نفسه تشكيل مجلس تشريعي مؤقت، يقوم بإصدار تشريعات تمؤسس جميع القرارات التي صدرت سابقاً.
والجدير ذكره، هنا، أنه على مدار سنوات الحرب التي عاشتها سوريا منذ عام 2011، تراجع بشكل كبير نفوذ الأحزاب السياسية ومؤسسات الدولة، لحساب صعود قوى عسكرية على الأرض، الأمر الذي يبرز بوضوح في هيكلية المعارضة، حينها، التي فشلت جميع تشكيلاتها السياسية، بما فيها «الائتلاف»، في تحقيق أي خرق في المشهد السياسي. كذلك، تراجع دور الجيش السوري إلى الحدود الدنيا، وصعد مقابل ذلك دور الفصائل المؤازرة له، والتي ترتبط بشكل مباشر بالفروع الأمنية، وببعض الدول الداعمة للأسد (إيران وروسيا)، وهي قوى انحلّت بشكل تلقائي مع سقوط النظام، ولم يعد لها أيّ دور يذكر في المشهد السوري، الأمر الذي يعني أن المعترك الأكبر أمام الشرع وسلطته الناشئة سيكون مع قوى الأمر الواقع المنتشرة في شمال البلاد وشرقها وجنوبها.
وفي مفارقة لا بدّ من الوقوف عندها، تؤدي القوى الرافضة حتى الآن الانصياع لقرار حلّ نفسها والاندماج في المؤسسات الناشئة في الدولة السورية التي يبنيها الشرع، دوراً كبيراً في منع الرجل من القبض المطلق على السلطة، لتغدو هذه الفصائل، برغم مرجعياتها المختلفة، وعدم اتحادها، ضمانة على الأرض لعدم تكرار تجربة «البعث» الماضية، وتغدو الدول التي تدخلت في سوريا ضمانة سياسية واقتصادية أيضاً، في انقلاب للمشهد السوري يتّسق مع التحوّلات الجذرية التي شهدتها البلاد منذ سقوط الأسد ونظامه.
وأمام وضوح ما يتمّ رسمه لسوريا، سواء عبر توافق دولي، أو بسبب رغبة دولية في طيّ الصفحة السورية، بأيّ شكل كان، يبقى مصير آلاف السوريين الذين عملوا في مؤسسات الدولة بمختلف أشكالها الإدارية والعسكرية والاقتصادية والأمنية أمام مستقبل مبهم، في ظلّ السعي المستمر لخصخصة هذه المؤسسات، ما يعني حرمان الموظفين من مصدر رزقهم الوحيد. يأتي هذا في ظلّ وجود قوى مسلحة على الأرض تمارس أعمالاً انتقامية بشكل مستمر، بعضها لأسباب طائفية، مستظلّة بسلطة حظيت بقبول إقليمي ودولي تشير بإصبعها إلى السلطة السورية السابقة، وتهدد بمحاسبة من ارتكب جرائم بحق الشعب السوري، وتتناسى من قام ويقوم بأعمال مشابهة من قبل الفصائل التابعة لها.
أخبار سوريا الوطن ١_الاخبار