الرئيسية » كتاب الأسبوع » المدينة تتلمس وجودها في رواية “دلشاد: سيرة الجوع والشبع”

المدينة تتلمس وجودها في رواية “دلشاد: سيرة الجوع والشبع”

| دعد ديب

في تناقض رهيب بين فرعي المدينة بين فقرائها وأغنيائها، تبدأ أحداث الرواية قبل الحرب العالمية الثانية وبداية تشكل الديموغرافيا السكانية لمدينة مسقط من مهاجرين من أعراق وشعوب مختلفة، جمعهم الفقر.

خليط من القوميات والأعراق قدموا إلى مدينة مسقط في ظروف مختلفة ولكل منهم حكايته ومأساته، استعارت الكاتبة العمانية بشرى خلفان حيواتهم لتصيغ أحداث روايتها “دلشاد: سيرة الجوع والشبع” من منشورات تكوين الكويت لعام 2021 والفائزة أخيراً بجائزة كتارا في الدورة الثامنة لعام 2022، والتي سبق أن دخلت في القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية للعام نفسه.

تماشياً مع أسلوب الرواية البوليفونية أو ما يطلق عليه أسلوب تعدد الأصوات السردية، نهض السرد في النص على لسان مجموعة كبيرة من الرواة تناوب بين ” دلشاد – ما حليمة – سنجور جمعة -عيسى عبد رسول- مريم دلشاد- عبد اللطيف لوماه- ما مويزي – فردوس أخت عبد اللطيف لوماه – حميد بن عبد الله –خلف بن سويلم – ناصر بن صالح – فريدة – حسن لبن – فاطمة لولاه-قاسم – نظام أحمد رسلان خير الله – بتول”، جعلتهم عناوين فصول العمل مما جعل كل شخصية تتحدث بمستوى وعيها، ومن خلال منطقها الخاص، وفق الظروف والواقع الذي شكّل ملامحها ووسم حياتها عبر الأصوات المتعددة للحدث الواحد.

يتمحور السرد حول شخصية دلشاد وسلالته “ابنته مريم وحفيدته فريدة” حيث يبرز صوت دلشاد في حياته الموجعة التي تفتقد إلى أدنى مقومات الحياة الطبيعية للكائن الحي، ترصدها خلفان على ضفتين، ضفة الجوع في الجانب المدقع من الانكشاف الإنساني المعرض لذل الفقر والجوع والمرض، وجانب آخر هو الفئة المترفة من المجتمع التي لها باع كبير بالسياسة والاقتصاد. وفي هذا تتطرق إلى تاريخ عُمان والأحداث التي مرّت عليه منذ مئة عام وواقع التشكيلات السكانية وواقع وجودها وتكوّنها في هذه البقعة من المكان، عبر ثلاثة أجيال تضمنتها حكاية دلشاد وسلالته الممتدة إلى حكاية مريم ابنته وبعدها الحفيدة فريدة،.

وفي هذه السيرورة تظهر نمو وتطور الشخصيات والمتغيرات التي تطرأ عليها عبر الزمن وأهمية ودور الظروف والتجربة الحياتية في صقل وعيها وطموحها.

اسم دلشاد بالفارسية هو القلب الفرح في تناقض جارح لنمط حياته البائس، فعندما وجد أمه ميتة في الخيمة، وهو ابن السادسة من عمره، انتابه ضحك مرير في التباس المعاني وتناقضها في حسه الفطري للأشياء غير المدركة. لأن الضحك أسلوب وحيد في تعبيره عن كل الأشياء، في انعكاس الصورة التي رسمت له، جوع مستديم وإرث من القهر والفاقة يقابلها بضحك على شكل كركرة بالأعماق لا سبيل إلى إيقافها. هذه الضحكة كانت السيالة التي أورثها إلى ابنته وحفيدته، كحالة ارتدادية عكست القهر والألم والعجز ونوع من الدفاع عن الوجود القاسي غير المحتمل، الضحك رد فعل دفاعي ضد الجوع، هو الصوت العالي الذي يصرخ من الوجع.

دلشاد الذي يتخلى عن ابنته لصالحها ولصالح حياتها القادمة التي يعجز عن توفير الأمان والحماية لها بسبب عماه،  فكرة سبق أن طرحها خالد حسيني في روايته “ورددت الجبال الصدى” بدراما الاختيار، عندما لا يحقق الوجود الأليف والعاطفي مع الأهل أدنى مقومات الحياة وتنعدم إمكانية أي مستقبل للطفل. فيبرز التساؤل الإشكالي: أيهما أجدى أن يلحق بأسرة أخرى تحقق له الأمان الاجتماعي وكفايته المادية من ملبس وغذاء وتعليم وأفق مفتوح للمستقبل، أم يبقى مع أمانه النفسي والعاطفي مع أهله وناسه مع كل الأخطار غير المحتملة والتهديد المستمر بالعجز والفقر والحرمان، خيار موجع ومحيّر حقيقة، وخاصة بين دلشاد وابنته لأنه وجع مقيم وحارق بالخيارين معاً. لذا كان السفر عبر البحر بالنسبة لدلشاد نوع من الهروب والغياب عن المكان المرتبط بالذنب، الذي ارتكبه مع ابنته بتركها مع أسرة غريبة عنها، ولم يجد وسيلة لنسيانه والتكفير عنه. هو وابنته تاريخ متشابه نشآ وكبرا كأبناء لحليب مجهول، في كنف أمومة من نوع آخر. دلشاد الذي لم يعرف حناناً إلا استجداء، جاءت ابنته مريم أيضاً لتكون أماً له، وهي التي لم تعرف أماً حقيقية، لتكون ابنة بأمهات عدة عاشت على حليبهن، ويكون اختلاط الأعراق صورة لهذا المجتمع وتشابك مكوّناته وصهرها في بوتقة واحدة، وقد شكّل الجوع هويتها الوحيدة.

في تناقض رهيب بين فرعي المدينة بين فقرائها وأغنيائها، تبدأ أحداث الرواية قبل الحرب العالمية الثانية وبداية تشكل الديموغرافيا السكانية من مهاجرين من أعراق وشعوب مختلفة، جمعهم الفقر كصفة لصيقة لوجودهم، ساقتهم أقدارهم في عهد السلطان تركي بن سعيد، بعضهم جاء من البلد المحاذية لبلاد الأفغان كجند في جيوش السلاطين وقسم مع السفن العابرة لميناء مسقط الذي كان أهم مركز لتجارة السلاح ولعب دوراً كبيراً في تجارة المحيط الهندي بين آسيا وشرق أفريقيا، وبالأخص تجارة السلاح،  التي شكلت في البدء الجزء الأهم من ثروة “بيت لوماه”. ثم تحول  بعد ذلك كمركز لمخازن السلاح لصالح الهند والإنكليز، حيث السياسة تبنى وفق مصالح الدول الكبرى رغم واقع الشعوب المزري. فوجود الرق والعبيد والجواري والتفاوت الطبقي كان شيئاً طبيعياً في بداية تشكّل المدينة،  مدينة مسقط.

تمدد السرد على أمكنة متشابهة في واقعها وظروفها “مسقط”، و”مطرح”، و”الشجيعية”، و”حارة البلوش” التي يقطن فيها الوافدون من بلوشستان، في جمع من خليط من اللغات الهندية والفارسية والعربية لفئات من البشر حطّت رحالها في هذا المكان وتمازجت أعراقها لتشكل قاعاً مجتمعياً يتشارك ببؤسه وخيباته وآماله.

لقد جسدت الرواية  تاريخ مدينة وتاريخ الطبقات التي تشكّلت فيها ورصداً لأحوال الفرد فيها من ناحية وواقع المرأة من ناحية أخرى بأكثر من نموذج: الأم “ما حليمة، مامويزي”، المرأة الفقيرة والجميلة “مريم”، المرأة المترفة” فردوس”، حيث غاصت الكاتبة في أعماق هذه الأخيرة لتبرز مبررات قسوتها بالجفاف العاطفي الذي سوّر حياتها وحرمانها من حبيبها، الأمر الذي انعكس بنية معقدة وحاقدة على الآخرين، ولاسيما إذا وجدت له مسوغاً فكرياً بالطبقية الاجتماعية، برغم ما ظهر على السطح بأن قسوتها على مريم وفريدة لا علاقة فيها للغنى والفقر.

وفي رصدها لحكاية المدينة مسقط القلب الفرح، مدينة الحكايات وفق تعبيرها. فقد اتكأت الكاتبة على الحكايات الشعبية كانعكاس لحياة القاع الاجتماعي التي تظهر ثقافته وموروثه على غرار حكاية أرواح التوائم الأربعين طفلًا، والتي تسرق الحياة من الغادين والعابرين كانتقام أزلي لتركهم لمصيرهم في فم الموت فريسة للذئاب والجوع والعطش، وأيضاً قصة غرام ومأساة هاني وشاه مريد التي ضحى فيها بالحب على مذبح الوفاء لكلمة وموقف تحت يافطة مفهوم الرجولة الخادعة.

الجدير بالذكر أن الأقلام النسائية العمانية باتت تحجز لها مكانة مهمة في لوحة السرد العربية، مكللة بالجوائز إذ افتتحتها الكاتبة جوخة الحارثي والتي فازت روايتها “نساء القمر” بالبوكر العالمية لعام 2021.

وبرغم استهلال صاحبة “الباغ” في مقدمة العمل بتنويه تخلي مسؤوليتها عن واقعية الأحداث:

” انتبهوا!! إن ما يحدث في الصفحات التالية

لم يحدث إلا في مخيلة الكاتبة

وسيحدث من الآن وصاعداً في مخيلتكم

أما الأسماء فقد تتشابه، ولكن بدون قصد أو نية”.

إلا أنها من دون مواربة تفصح العتبة النصية الواردة في العنونة “دلشاد.. سيرة الجوع والشبع” عن مضمون نصها، إذ تعطي الانطباع المباشر بسردية عن مآسي الواقع الغارق في التناقض  الطبقي للمجتمع  حيث الحاجة وصمة تحفر في الوجدان. فمن عضّه الجوع لا يمكن أن ينسى ثقل ومرارة ذاكرته مهما تيسر لها من شبع في زمن لاحق.

 

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

من اسطنبول إلى حيفا..

إسماعيل مروة   تعدّ مرحلة بناء الدولة العربية المستقلة من نهايات القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين من أهم الحقب وأغناها، وأكثرها جدلاً، إذ ...