| سعد الله مزرعاني
لا ينبغي الملل من تكرار أن حجم الإجرام الذي ارتُكب، من قبل السلطة اللبنانية، ضد لبنان والأكثرية الساحقة من شعبه، كان ولا يزال يستدعي هبَّة تسونامية تُطيح المسؤولين عن الكارثة: كبارهم وصغارهم! التكرار هو، في الواقع، وسيلة حثّ لمحاولة كشف الخلل والاختلال في عدم قيام فعل تغييري جذري وسريع يتناسب مع حجم هذه الجريمة المتمادية. لم يحصل ذلك في لبنان. وهو كان حصل في بلدان عديدة كردّ فعل على ارتكابات أقل بما لا يقاس مع ما حصل في بلدنا! الانتخابات الأخيرة كشفت أن الاعتراض كان محدوداً، بل وحتى هزيلاً. ثم إنه، ويا للمفارقة، كان سطحياً في محصّلة تبلوره العامة في مجرى الانفعالات والاحتجاجات والتفاعلات والبدائل! نعم، تلك كانت هي النتيجة، رغم التدخل الخارجي الهائل والفجّ والمباشر والمتعدد الأشكال والأساليب، لتغذية الأزمة ولتعظيم آثارها السلبية والمدمِّرة ولزيادة عدد ضحاياها، حتى شملت حوالي 95% من اللبنانيين بأفدح وأقصى وأقسى الأضرار!
العامل الثاني الذي أسهم في ضعف رد الفعل على الجريمة، هو مسارعة واشنطن وحلفائها الإقليميين إلى الانخراط الكامل في محاولة استغلال الأزمة ومحاولة توجيه الاحتجاجات الشعبية، ليس ضد أفراد الطغمة الحاكمة، ومعظمهم أصدقاء وشركاء لواشنطن في سياساتها في لبنان والمنطقة، بل لاستهداف المقاومة ضد العدو الصهيوني. وهي طوَّرت لهذا الغرض، مبكراً، خطة متكاملة ومتواصلة تحدث عنها، بوضوح بلغ حد الوقاحة، مسؤولون كبار في الإدارات الأميركية: ديبلوماسيون وسفراء تولوا الملف اللبناني وأنفقوا من أجل إنجاح خطط إدارتهم مئات ملايين الدولارات. إحدى حلقات هذا المخطط كانت عدوان تموز 2006 الذي حرَّضت عليه وواكبته واشنطن وراهنت عليه علناً. بعد فشل ذلك العدوان، وقبله فشل العدوان على العراق، ومعهما مشروع «الشرق الأوسط الجديد»، حدث تحوّل كبير في الخطط الأميركية: إثارة التناقضات الداخلية (الحرب الناعمة)، بديلاً من الغزو والحروب «الاستباقية». في هذا السياق تبلور التوجه بشأن الداخل اللبناني ووُظفت من أجل ذلك جهود ومؤسسات ومليارات وشعارات: أزمة لبنان الاقتصادية كانت المنطلق، واستغلال الانتفاضة هو الأداة.
العامل الرابع هو افتقار المجموعات الشعبية التي لعبت دوراً مؤثّراً في إطلاق مبادرات الاحتجاج وفي جذب مئات الآلاف، تحت تأثير الأزمة، إلى الشارع، إلى دينامية تطور ونمو تتبلور في مجرى الصراع وترتقي إلى مستوى قيادة جديرة، تضع خطة وأولويات. طغى الهدف الأميركي (الإسرائيلي ضمناً)، أي استهداف سلاح المقاومة، على المشهد العام، وترك تأثيراً بالغ الضرر على مجمل مسار الانتفاضة. استدرج ذلك أيضاً قيادة المقاومة إلى ردود فعل سلبية ضد التحرك عموماً، وإلى محاولة إظهار نفسها قوة حماية، ليس للمنظومة عموماً وليس فقط لحلفائها هي.
نتيجة كل ما تقدّم، كان حصاد ملايين اللبنانيين المتضررين هزيلاً في الانتخابات النيابية التي حصلت في أيار الماضي. الهزال لا يقتصر على عدد الناجحين في الانتخابات، بل بالدرجة الأولى، على هزال الشعارات والبرامج التي رفعوا لواءها. لقد جرى، مثلاً، الحديث عن الطائفية ليس بوصفها قيداً مفروضاً تضعه البورجوازية الكبرى في أعناق اللبنانيين للسيطرة، بإثارة العصبيات والغرائز، على ميولهم وتوجهاتهم واختياراتهم السياسية، بل من باب أخلاقي على طريقة: «كلنا إخوة» يا شباب! لم يحضر، مثلاً، في برامجهم، قبل الانتخابات ولا بعدها، بند تطبيق المواد الدستورية 22، 24، 95 التي تضع آلية متكاملة لإلغاء الطائفية السياسية ضمن «خطة مرحلية». إلى ذلك، فإن معظم «التغييريين» يتعاونون أو يتقاطعون أو «يطنشون» بشأن ممارسات تدخل خارجي فظّ في الشأن الداخلي اللبناني، خصوصاً الأميركي المتمادي والسعودي الذي يسير على خطاه. أمّا بعضهم الثالث، فقد انخرط في عملية الفرز التقليدية الطائفية والمذهبية والسياسية، بعيداً عن أي خيار معارض موجَّه ضد الخلل القائم في النظام السياسي خدمة لمصالح البورجوازية الكبرى ومرجعياتها الغربية التي تقودها واشنطن.