الرئيسية » كتاب وآراء » نهاية “نهاية التاريخ”

نهاية “نهاية التاريخ”

| وليد القططي

الحرب الروسية الأوكرانية كان من أهم نتائجها تعميق الشراكة الاستراتيجية بين روسيا والصين التي برزت من خلال القمة الروسية الصينية مؤخراً، وإعلان هدفها الصريح بإنهاء نظام القطب الواحد والهيمنة الأميركية، وبناء نظام عالمي متعدّد الأقطاب.

“النظام العالمي الجديد سيصبح قديماً”.. هذا عنوان مقال كتبته في سجن النقب الصحراوي لمجلة السجن المكتوبة بخط اليد عام 1992، والمقال كان تعقيباً على انهيار النظام العالمي ثنائي القطب، وتشكّل نظام عالمي جديد أُحادي القطب الغربي الأميركي. ومضمون المقال أنَّ النظام العالمي الجديد سيأخذ دورته التاريخية المحكومة بسُنن التاريخ ليصبح قديماً، ثم يُستبدل بنظام عالمي آخر.

وقد مضى على كتابة المقال أكثر من 30 عاماً، لنصبح على أبواب تشكّل نظام عالمي جديد متعدّد الأقطاب، برزت معالمه بعد الحرب الروسية – الغربية في أوكرانيا، وتأكدت هويته بعد القمة الروسية – الصينية في نهاية شهر آذار/مارس. وهذا النظام في طور التكوين وسيُنهي نظرية “نهاية التاريخ”، ويبقى السؤال الأهم من سيملأ الفراغ الحضاري بعد “نهاية التاريخ”؟ وللإجابة على هذا السؤال لا بدّ من العودة بالتاريخ إلى نتائج الحرب العالمية الثانية.

كان من أهم نتائج الحرب العالمية الثانية تشكّل نظام عالمي ثنائي القطب في النصف الثاني من القرن العشرين، موّزع بين كتلة غربية رأسمالية قطبها الولايات المتحدة الأميركية، وكتلة شرقية اشتراكية قطبها الاتحاد السوفياتي. العلاقة بين الكتلتين تميّزت بالصراع المتعدّد المظاهر والأشكال، والممتد في الزمان والمكان، والمعروف باسم الحرب الباردة.

انتهت تلك الحرب بهزيمة الكتلة الشرقية وتفكّكها، وكان تحطيم جدار برلين عام 1989 الطلقة التي أعلنت البدء في سباق تفكّك الكتلة الشرقية، ليصل السباق إلى نهايته بتفكّك الاتحاد السوفياتي نفسه؛ لتنفرد الولايات المتحدة الأميركية برسم نظام عالمي أُحادي القطب، متخذة من “العولمة” شكلاً جديداً من الاستعمار بمضمونه القديم الذي يجمع بين: عنصرية اليونان، واستعلاء الرومان، وحقد الصليبيين، وجشع الأوروبيين، ووحشية الأميركيين…

أغرى كل ذلك القُبح فلاسفة الغرب بابتكار نظريات تُرضي غطرسة القوة والتفوّق الغربي، وتغرس في عقولهم وهم أبدية القوة وخرافة التفوّق، وكان من أبرز تلك النظريات “نهاية التاريخ”.

“نهاية التاريخ”، مفهوم سياسي وفلسفي، مضمونه أنَّ نظاماً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً قد وصل إلى درجة من النضج والاكتمال والمثالية، بحيث يُشكّل نقطة النهاية لتطوّر البشرية، و”نهاية التاريخ” كنظرية سياسية موجودة في الفكر السياسي على مر العصور، فيها قدر من العنصرية والاستعلاء، ولكنها في الغرب تكتسب طابعاً أكثر عنصرية واستعلاء، ذلك بأنَّ الغرب يرى في نفسه مركز العالم بل العالم كله أو حديقة العالم على الأقل، وباقي العالم غابة.

ولأنَّ التاريخ عند الغرب يعني تاريخ الصراع البشري بين الأُمم والدول، وبالتالي فإنَّ نهاية الصراع بين الأُمم الغربية، كالصراع بين الرأسمالية والاشتراكية في البيت الغربي الواحد، سيكون هو نهاية الصراع البشري، أو بمعنى آخر نهاية التاريخ، وهذا ما استند عليه فوكوياما، الفيلسوف الأميركي ذو الأصل الياباني في نظريته “نهاية التاريخ” التي بدأها في مقال كتبه عام 1989 عنوانه يحمل الاسم نفسه، ثمّ في كتاب “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” عام 1992 بعد حسم الصراع في الحرب الباردة لصالح الكتلة الغربية الرأسمالية الليبرالية بزعامة أميركا.

نظرية “نهاية التاريخ” برؤية فوكوياما تعني ما وصل إليه الغرب بنظامه الرأسمالي الليبرالي، وهو قمة الحضارة الإنسانية. فالديمقراطية الليبرالية هي نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان، وبها وصل التاريخ الإنساني إلى النهاية التي سيسود فيها نموذج واحد لكل شيء، هو النموذج الغربي. وقال: “إنَّ الديمقراطية الليبرالية مكانها أن تشكّل فعلاً منتهى التطوّر الأيديولوجي للإنسانية، والشكل النهائي لأي حكم إنساني، أي إنّها من هذه الزاوية نهاية التاريخ”.

والكتاب في وجهه الآخر وثيقة غربية تُعلن انتصار المعسكر الغربي الرأسمالي الليبرالي، وهو يُعبّر عن أمر واقع بطريقة فلسفية، أو يُبشّر بعالم جديد تفرضه أميركا الأنكلوساكسونية البروتستانتية بقوتها العسكرية وسوط العولمة كزعيمة للغرب المنتصر على جانبي الأطلسي.

لم تكتفِ أميركا كزعيمة للغرب بهزيمة الكتلة الاشتراكية والاتحاد السوفياتي وتفكّكهما؛ بل سعت إلى إذلال الدولة المركزية في الكتلة والاتحاد، وهي روسيا على مدار عقدٍ كامل في عهد الرئيس الروسي بوريس يلتسن، الذي سمح بسياسته الخاضعة للغرب بالإذلال القومي لروسيا، ليكون هذا الإذلال أهم دوافع وأسباب النهضة الروسية في عهد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ عام 2000.

فكان مشروعه النهضوي المتمحور حول إعادة إحياء الدولة الروسية كدولة قوية مستقلة خارج بيت الطاعة الأميركي كقطب عالمي مستقل، هو الذي دفع الغرب بواسطة حلف الناتو إلى التوسّع شرقاً لمحاصرة روسيا، وصولاً إلى نقطة الانفجار عندما تصدّت روسيا لذلك في أوكرانيا، فاندلعت الحرب الروسية الغربية في أوكرانيا مطلع عام 2022، لتُعلن عن بدء تشكّل نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب.

هذه الحرب التي كان من أهم نتائجها تعميق الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين روسيا والصين التي برزت من خلال القمة الروسية الصينية مؤخراً في موسكو، وإعلان هدفها الصريح بإنهاء نظام القطب الواحد والهيمنة الأميركية، وبناء نظام عالمي متعدد الأقطاب.

الحرب الروسية – الغربية في أوكرانيا، وقمة الرئيسين بوتين وشي في موسكو، آخر مسمارين في نعش النظام العالمي الأميركي، سبقهما الكثير من المسامير المثبتة في النعش، منها: صمود دول إقليمية خارج بيت الطاعة الأميركي عشرات السنين كإيران وسوريا وكوبا وكوريا الشمالية وفنزويلا…، وصعود اليسار المعادي لأميركا في أميركا اللاتينية، وتضخّم قوة الصين الاقتصادية  في العالم، وتصدّع العلاقات داخل المعسكر الغربي الأميركي، وفشل مشروع الشرق الأوسط الجديد وبعده صفقة القرن، والسقوط الأخلاقي الأميركي ولا سيما ازدواجية المعايير…

هذا كله وغيره يعني أنَّ نظرية “نهاية التاريخ” التي بنت فرضياتها على استمرار هيمنة الولايات المتحدة الأميركية على العالم كزعيمة للحضارة الغربية على جانبي الأطلسي، قد وصلت إلى نهايتها، وبما أنَّ التاريخ لا يعرف السكون، والحضارة لا تعرف الفراغ؛ فالذي سيحرّك التاريخ ويملأ الفراغ هي قوى عالمية وإقليمية أُخرى تكون شريكة في بناء عالم متعدّد الأقطاب.

بناء نظام عالمي جديد مُتعدّد الأقطاب والحضارات على أنقاض النظام العالمي أُحادي القطب والحضارة، بات أمراً واقعاً، عُرفت بعض أقطابه مثل روسيا والصين والهند، ولا ينبغي أنْ يمرَّ من دون حضور الإسلام كقطب مُحرّك للتاريخ البشري، وموّجّه للحضارة الإنسانية، خاصة وأنَّ الإسلام كدين وحضارة يمتلك كل المقوّمات الأخلاقية والقيمية التي تؤهّله لقيادة البشرية جمعاء إلى برّ الأمان، وعلى الأقل حضوره كأحد أقطاب النظام العالمي الجديد.

حضور الإسلام كقطب مؤثّر في السياسة والتاريخ والحضارة بواسطة الدول الإسلامية مجتمعة ومتحدة كما يتجلّى ذلك في محور المقاومة المتمرّد على الهيمنة الصهيوأميركية، واجب إنسانـي وأخلاقي وديني على كل المسلمين ولا سيما أولـي الأمرِ منهم. هذا الواجب خدمةً لكل مستضعفي الأرض، ودفاعاً عن كل مظلومي العالم، وخدمة لقضايا الأمة الإسلامية بمختلف قومياتها وشعوبها ومذاهبها، وفي المركز الأول منها القضية الفلسطينية، القضية التي سيكون حلها بتحرير فلسطين إيذاناً ببدء دورة الحضارة الإسلامية الجديدة والعالمية الإسلامية الثانية.

 

سيرياهوم نيوز3 – الميادين

x

‎قد يُعجبك أيضاً

هذا قشط لحم و ليس كسر عضم….. (الجزء الثاني)

  باسل علي الخطيب فرحون إذاً أنتم بكل هذا الغسيل الوسخ الذي تنشرونه؟…. و يسألونك عن قيصر؟؟… حسناً، هذا الذي تعرضونه ألا يؤكد أن قيصر ...