آخر الأخبار
الرئيسية » كتاب وآراء » المكارثية السياسية والأقفاص المغلقة!

المكارثية السياسية والأقفاص المغلقة!

د. بسام أبو عبد الله

تعرف المكارثية السياسة بأنها سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة، ويعود هذا المصطلح لخمسينيات القرن الماضي، وارتبط باسم جوزيف ريموند مكارثي، وهو عضو كونغرس جمهوري عن ولاية ويسكنسون انتخب شاباً في الثلاثينيات من عمره، وأصبح شخصية عامة مشهورة على خلفية ادعائه في ذكرى وفاة الرئيس الأميركي أبراهام لنكولن من أن لديه أوراقاً تضم أسماء المئات من الجواسيس الشيوعيين يعملون في الوزارات الحكومية، وعلى رأسها وزارة الخارجية، إضافة لمؤسسات أخرى، وعقب هذا الادعاء شُنت حملة مطاردة واسعة غير مسبوقة أدت لاعتقال الآلاف ممن يُشك أن لديهم توجهات شيوعية، وجرى تقديمهم للقضاء بتهمة محاولة الإطاحة بالحكم بالقوة أو العنف، وصولاً لتمكن حملة مكارثي من تشكيل لجنة داخل الكونغرس مهمتها التحقيق في انتشار الشيوعية داخل أراضي الولايات المتحدة، وكانت الاتهامات بالطبع في أغلبيتها الساحقة بلا دليل وغوغائية إلى أبعد حد، ولم تكن مدروسة ما أدى لفقدان المئات من الضحايا وظائفهم بلا ذنب واضح، وشارك مكتب التحقيقات الفيدرالي «IBF» في هذه الحملة من خلال برنامج سماه مناهضة التجسس الذي عرف اختصاراً بـ«كاونتلبرو» حيث كانت مهمته مراقبة الشخصيات العامة، ونشر الأكاذيب، وقد نجح مكارثي بدفع المجتمع لقبول تطرفه وتعصبه، ما أنشأ حالة من الإرهاب الفكري الشديد ضد المثقفين، والموظفين الحكوميين.

 

ممن طالتهم الاتهامات الممثل الشهير شارلي شابلن، وعالم الرياضيات ألبرت اينشتاين، والمناضل الأسود مارثن لوثر كينغ، ومئات الأسماء اللامعة آنذاك، وقد جرى الخلط بشكل مقصود بين الشيوعية والعمل مع الاتحاد السوفييتي بشكل واضح، وبين اعتناق الفكر اليساري، والتقدمي للدفاع عن حقوق البشر دون تمييز.

 

لكن شخصيات أميركية بارزة مثل الإعلامي إدوارد مارو والأديب آرثر ميلر واجهوا هذه الحملة وصولاً لإدانة مكارثي بتهم الفساد والتزوير، وتمت محاسبته داخل الكونغرس، وانتهى به الأمر مدمناً بعد انتهاء أسطورته بنظر الناس، وبعد أن تكشف أنه شخص يكيل الاتهامات الباطلة لخصومه، وليس لديه وازع أخلاقي ولا ضمير لتحقيق أهداف سياسية شخصية.

 

الحقيقة أن المكارثية السياسية في أميركا والغرب لم تنتهِ بعد، لكنها تأخذ أشكالاً جديدة منها مثلاً أن أي انتقاد لوحشية الكيان الصهيوني في غزة اليوم يعرض الشخص للاتهام بمعاداة السامية، أو أنه يتبع الأفكار اليسارية وهو ما نراه اليوم بالحملة التي تقودها اللوبيات الصهيونية ضد أساتذة الجامعات، والشباب الأميركي الذي ينتقد الكيان، والأمر نفسه ينسحب على المنظومة الغربية في بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وغيرها من الدول، والمكارثية تنسحب أيضاً على القيم الاجتماعية، إذ أن رفض الشذوذ الجنسي يعاقب عليه في العديد من الدول الغربية، ولا يتوقف الأمر هنا، بل إن المكارثية السياسية الغربية طالت روسيا وثقافتها، وأدباءها، ورياضييها، وأموالها، وممتلكاتها، وظهرت لديهم «فوبيا (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين»، كما سبق ذلك عندما طالت هذه المكارثية سورية، وقائدها الرئيس بشار الأسد، وصولاً لـ«فوبيا الإسلام والمسلمين»، وحالياً «فوبيا الصين».

 

على المقلب الآخر شهدت الصين في الفترة ما بين 1966- 1976 ما عرف باسم «الثورة الثقافية البروليتارية العظمى» التي تذكر العديد من المصادر أن سببها هو حرص الرئيس الصيني الأسبق ماو تسي تونغ، على تنميط الصين وفق رؤاه، وأفكاره التي كان يؤمن أن مصلحة بلاده تتحقق من خلالها، وكان ماو يعتقد منذ وصوله للسلطة عام 1949 أن نهجه الذي سار عليه خلال الثورة، وقوامه الصراع الطبقي، والكفاح الشعبي التحرري هو الصحيح في إدارة الدولة، منطلقاً من أن هذا النهج، واستمراريته، ستمكن الصين من الانتقال سريعاً من النمط الإقطاعي التقليدي إلى المرحلة الشيوعية فوراً.

 

استخدام ماو مقولات حادة جداً للتعبير عن توجهاته مثل: «إن الصراع الطبقي هو الوسيلة التي تعقم الناس من كل الأدران البرجوازية والإقطاعية التي تعلق بهم»، وقوله: «إن السلطة تنبع من فوهة البندقية»، للإشارة لضرورة مواصلة العنف الثوري للحفاظ على السلطة، وكان ماو يرى أن معارضيه يمثلون استمراراً للطبقات البرجوازية والإقطاعية أو أنهم عملاء السوفييت.

 

أدت سياسات ماو في تجربة الكومونات الزراعية، أو فيما يعرف بتجربة «الوثبة الكبرى» الصناعية إلى حصول خلل في قطاعات الإنتاج، وتأثير على موارد الطاقة، وتدهور الوضع البيئي في الصين، بسبب اعتقاداته الخاصة دون حوار واسع وشامل، ما أدى لنشوء بوادر معارضة داخل الحزب في المؤتمر الثامن له في أيلول 1956، وبخاصة تجاه نبذ «عبادة الشخصية»، كما أن معارضيه طرحوا فكرة الملكيات البرجوازية الصغيرة في الريف للتغلب على انخفاض إنتاج الغذاء طارحين شعارهم الذي أنتجه الزعيم الصيني دينغ شياو بينغ: «ليس المهم أن يكون لون القط أبيض أو أسود المهم أن يصطاد الفئران، لكن ماو رأى أنه يجب أن ينطلق من الجانب الثقافي في مهاجمة منتقديه لأن المثقفين أكثر من ينادون بتعددية الآراء، وهذا برأيه خطر على الصراع الطبقي، ومن ثم على توظيف الطاقات الصينية من أجل التقدم والنهضة.

 

الخطورة تمثلت في عام 1964 عندما اتهم ماو وتياره، أن أوساطاً أدبية صينية لا تنفذ سياسة الحزب، وانزلقت لـ«هاوية تحريفية» ثم أشار لاستعادة القوى البرجوازية عافيتها بسبب الإجراءات الجديدة التي اتخذها الحزب.

 

في أيار 1966 عمل ماو على تجميد عضوية العديد من معارضيه، وعزلهم، وشكّل لجنة من أربع شخصيات، وأطلق في شهر آب ما يعرف بالثورة الثقافية، حتى إن مؤيديه أطلقوا شعار «اقصفوا مقر القيادة» في إشارة لمعارضي ماو.

 

وقد حدد هدف الثورة الثقافية الأساسي بما سموه: سحق الشياطين القدامى الأربعة، وهي: الأفكار القديمة، الثقافة القديمة، الأعراف القديمة، والعادات القديمة.

 

كان من نتائج هذه الثورة الثقافية إطلاق شباب طائش «الحرس الأحمر» للبطش بالناس، ومهاجمة الجامعات، والتنكيل بأساتذتها، ورؤسائها بتهمة التعاطف مع البرجوازية، وتمّ حرق المؤلفات لكبار الكتاب في الساحات العامة بحضور مؤلفيها، ومهاجمة المتاحف، وتدمير محتوياتها، وتحويل المدارس، ودور العبادة، والمسارح، والمكتبات إلى أماكن اعتقال، وقد كان أشهر من كتب عن هذه المرحلة البروفسور الصيني جي كسينلن، الذي عاصر في ألمانيا خلال دراسته فترة التطرف النازي الألماني، والعنصرية المقيتة، وعلى الرغم من أنه كان من مؤيدي الزعيم الصيني ماو، لكنه وقع ضحية هذه الثورة، وكتابه «زريبة البقر.. ذكريات من الثورة الثقافية الصينية»، نشرته دار نشر حكومية صينية بعد سنوات من احتفاظ المؤلف به، كما أن رئيس الوزراء الصيني زاره، وأعاد له الاعتبار باعتباره من ضحايا هذه الثورة، ومما أشار إليه البروفسور الصيني أن ما حدث كان كارثة وحشية قادت البلاد لانهيار، وقادها مجموعة من عديمي الكفاءة والفارغين أخلاقياً، ومدعي اليسار الذين كانوا يعتدون على الناس، ويستولون على ممتلكاتهم، ويقتلون الأبرياء تحت عناوين كاذبة، ويروي: أنه أرسل للقرى للعمل تحت أيادي أميين لإعادة تثقيفه مع غيره بأقوال الزعيم ماو وترديدها يومياً، وكان السجانون يسمونهم «البقرة الشيطانية».

 

لقد أراد البروفسور الصيني القول: إن هذه المأساة يجب تجنبها في أي مكان آخر، وبالطبع فإن الصين تجاوزت هذه المرحلة السوداء من تاريخها، وأجرت مراجعة نقدية لها، واعتبرت أن ماو تسي تونغ قائد تاريخي لكنه أخطأ.

 

إن الخلاصات التي أريد الإشارة إليها من خلال طرح هذين الأنموذجين العالميين هو الوصول للآتي لدينا هنا في بلدنا:

 

1- إن سياسة المكارثية، والأقفاص المغلقة لا تنتج إلا الكوارث الوطنية، ولذلك لابد من اتباع سياسة الحوار، والنقاش بالأفكار، وتبادلها على اختلافها للوصول للمشترك.

 

2- إن ما يقوم به الرئيس بشار الأسد من فعاليات مختلفة بالحوار مع كوادر حزب البعث، وقطاعات اجتماعية، وفنية، وفكرية، واقتصادية، هدفه الوصول لرؤية مشتركة ذات حامل اجتماعي بالنسبة للمستقبل، وليس على طريقة البعض منّا باحتكار الحقيقة، وإطلاق الأحكام المطلقة، والبيانات الرنانة، لا بل نصب المشانق والتهديد بها، هذه طريقة ليست لائقة، لأن الأفكار تقارع بالأفكار وبطريقة محترمة.

 

3- إن الحوار أفضل وسيلة للإقناع، ففيه اغتناء من أفكار الآخرين، وجسور للتفاهم والمعرفة، وتعاون مشترك للأفضل، وبناء المستقبل.

 

4- إن التقوقع داخل أقفاص مغلقة غالباً ما ينتهي الأمر به للتعصب والتطرف وإقصاء الآخر.

 

إن التركيز على الخلاص من الانغلاق في مجتمعات شديدة التنوع مثل مجتمعاتنا، هو الطريق الأمثل للمستقبل، ذلك أن أي رأي هو قابل للنقد، لكن بشرط طرح الحلول، والمخارج والبدائل، وليس النقد من أجل الظهور، وزيادة الشعبية، فالنقد يجب أن يكون علمياً، وموضوعياً.

 

لكن الأكثر أهميــة مــن ذلك كله هو الأعمــال وليــس الأقــوال، إذ غالباً ما نجد أن من يعمل لا وقت لديه للثرثرة، في حين من ليس لديه عمل ولا مشروع، يقضي وقته في التقاط أخطاء وعثرات الآخرين.

 

الفكرة باختصار: دعونا نخرج إلى الضوء، ونجري حواراتنا باحترام، وبأفكار وحلول بعيداً عن سياسات النق، والسلبية، فالإصلاح أول ما يبدأ، يبدأ بأنفسنا قبل أن نصلح الآخرين، وهو طريق صعب جداً، وليس سهلاً كما يصوره البعض، ويحتاج لإرادة فولاذية، ورؤية منفتحة وليست سجينة الأقفاص المغلقة.

 

كاتب سوري

 

 

 

 

 

سيرياهوم نيوز٣_الوطن

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الثورة الطلابية الثانية…..(الجزء الاول)…..

  باسل الخطيب المظاهرات الطلابية في الجامعات الأمريكية ليست حدثاً عادياً البتة…. هذه المظاهرات سببها الاحتجاج على السياسة الأمريكية الداعمة للعدوان الصهيوني على غزة، و ...