عدنان كامل الشمالي
في 24 تشرين الثاني 1936، ولد فرانشيسكو فرانك كابريو في حيّ فيديرال هيل بمدينة بروفيدنس – رود آيلاند، لأسرة مهاجرة من إيطاليا، عاش والده بين البيع المتواضع للحليب والعمل الجاد ليرفع من شأن عائلته. كبر فرانك في بيئة بسيطة، نمت فيه قيم التواضع والتعاطف، ولم يكن يتوقع حينها أن هذا الصبي سيكون نموذجًا عالميًا للعدالة الرحيمة.
درس فرانك في كلية بروفيدنس وتخرّج عام 1958، ثم تابع تعليمه في كلية الحقوق بجامعة سوفولك أثناء عمله معلّمًا للحكومة الأمريكية.
في عام 1985، عُيّن قاضيًا في محكمة بلدية بروفيدنس، وتولّى منصب القاضي الرئيسي حتى تقاعده عام 2023.
لكن ما جعله أحد أبرز القضاة في العالم لم يكن مقامه القضائي، بل تلك الابتسامة الإنسانية التي ارتسمت على وجهه في المحكمة. ظهرت هذه الإنسانية بخاصة من خلال برنامجه التلفزيوني Caught in Providence (ممسوك في بروفيدنس) الذي نقل جلساته الواقعية إلى ملايين المشاهدين، وجعله يُعرف بلقب أطيب قاضٍ في العالم .
* لحظات تحفر في القلب
_عندما ظهر طفل مع والده لتسديد مخالفة، التفت القاضي إلى الطفل وسأله: ما رأيك ان تساعد بابا وتدفع الغرامة؟.
وافق الطفل ببساطة، فخفّض القاضي الغرامة واعتبرها مسدّدة من الابن، ما جعل لحظة المحكمة تتحول إلى عائلة تتضافر.
_ المرأة المسنة التي كانت في المستشفى عوقبت على مخالفة ركن السيارة، وحين فسّرت أنها كانت توصل مرضاها إلى المستشفى، استمع لها القاضي قائلاً:
العدالة ليست فقط في تطبيق القانون، بل في النظر إلى الرحمة أيضًا.
وهكذا أسقط عنها الغرامة، تاركًا خلفه درسًا بأن القوانين لا ينبغي أن تُطبق بعيون مغلقة.
_ الأب الذي فقد ابنه بالسرطان
أمام قلبٍ محطم، لم يُصدر فقط حكمًا، بل قال:
أشاركك ألمك، ولن أزيد قلبك وجعًا.
وأسقط عنه كلّ الغرامات. لحظة تحوّلت فيها المحكمة إلى مساحة عزاء مشتركة بين القاضي والمتهم.
_ الرجل بلا مأوى..جلس أمامه رجل مشرّد مثقل بالمخالفات.
لم ينظر إليه كرقم في ملف، بل كإنسان يحتاج فرصة جديدة. أعفاه من العقوبات، وأحال قضيته إلى جمعيات خيرية يمكن أن تمد له يد العون.
الوداع الأخير .
* حين طلب القاضي أن نتذكره في صلواتنا
في 6 كانون الأول 2023، أعلن كابريو إصابته بمرض سرطان البنكرياس وبدأ رحلة علاج طويلة. وفي صيف 2024، خضع للعلاج الإشعاعي أملاً في الشفاء.
لكن المرض استمر، وفي 19 آب 2025
نشر فيديو مؤثر من سريره في المستشفى قائلاً:
أطلب منكم أن تذكروني في صلواتكم مجددًا.
كانت تلك رسالته الإنسانية الأخيرة.
بعد يوم واحد فقط، في 20 آب 2025.
أُعلن خبر وفاته عن عمر ناهز 88 عامًا، بعد معركة شجاعة مع المرض.
نكّست الأعلام في رود آيلاند، ووصفه الحاكم بأنه رمز للتعاطف والعدالة الإنسانية .
خاتمة
رحل فرانك كابريو تاركًا خلفه أكثر من إرث قانوني؛ ترك درسًا بليغًا في معنى العدالة نفسها. لقد علّم الناس أنّ نص القانون قد يكون حادًا، صلبًا، يضع الجميع في كفّة واحدة، لكن روح القانون هي التي تمنح العدالة معناها الأعمق؛ فهي التي ترى الإنسان قبل المخالفة، وتسمع الحكاية قبل أن تُصدر الحكم.
من قاعة محكمة صغيرة في بروفيدنس، أضاء كابريو على ما غاب طويلًا: أن العدالة ليست مجرّد أداة للردع والعقاب، بل وسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث تُوازن بين الحقوق والرحمة، بين النظام وكرامة البشر.
وبذلك أثبت أنّ القاضي، أي قاضٍ، يمكن أن يكون مرآة للإنسانية لا مجرد ظل للنصوص، وأن القانون حين يفقد قلبه يتحوّل إلى قسوة، وحين يتّسع للرحمة يصبح عدلاً حقيقيًا يليق بالبشر.
(موقع اخبار سوريا الوطن-1)